في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 أصدر الرئيس "بوش الابن" أوامره للجيش الأمريكي بتوجيه ضربة عسكرية لإسقاط "طالبان" في أفغانستان.
وبالفعل، بدأ الهجوم الأمريكي يوم 7 أكتوبر 2001، وتمت هزيمة "طالبان" وفرار قيادتها خارج العاصمة.
في 15 أغسطس 2021، دخلت قوات "طالبان" كابول بعد أن سقطت الولايات الأفغانية في يدها واحدة تلو الأخرى، وتحقق لها ذلك بقتال محدود مع القوات الحكومية، انتهى باستسلام هذه القوات أو فرارها صوب الحدود، بل وأحياناً سقطت بعض الولايات دون قِتال تقريباً.
ولا بُد أن تثير هذه التطورات أسئلة عميقة حول ما حدث في أفغانستان على مدى عشرين سنة من الوجود العسكري الأمريكي فيها، ولماذا عجزت واشنطن عن بناء قوة عسكرية أفغانية ذات حيثية؟ وكيف استطاعت "طالبان" أن تحافظ على قوتها العسكرية وأن تحقق هذا النصر الخاطف؟ وهل كانت الإدارة الأمريكية على معرفة بهذه التطورات عند اتخاذها قرار الانسحاب؟ ولماذا حرصت "طالبان" على اقتحام العاصمة قبل شهر تقريباً من إتمام الانسحاب الأمريكي؟
كانت رسالة "طالبان" أنه إذا كانت واشنطن هي التي قررت موعد الهجوم على أفغانستان في 2001، فإنها -أي "طالبان"- هي التي تقرر موعد عودتها للعاصمة في 2021.
أرادت "طالبان" أن تحرم أمريكا من تحقيق انسحاب منظَّم وفرضت عليها أن يكون انسحاباً متسرعاً وفوضوياً، وأجبرت واشنطن على إرسال 4 آلاف جندي لحماية مطار كابول ولتنظيم إجلاء الموظفين والرعايا الأمريكيين والمتعاونين معها، وهو المشهد الذي أعاد إلى الأذهان الانسحاب الأمريكي من فيتنام الجنوبية عام 1975.
لقد كان من الممكن أن تنتظر "طالبان" إلى 31 أغسطس الجاري عندما ينتهي الانسحاب الأمريكي لكي تشن هجومها العسكري، ولكنها قررت غير ذلك لتأكيد إمساكها بزمام المبادرة، ولوضع أمريكا في موقف حرج أمام الأفغان والعالم.
ومن الصعب للغاية تصور أن المخابرات الأمريكية وأجهزة التقدير الاستراتيجي فيها لم تتوقع هذه التطورات، فالأرجح أنها كانت على بيّنة من أن انسحاب القوات الأمريكية والقوات الحليفة لها، سوف يؤدي إلى عودة المكانة السياسية والعسكرية لـ"طالبان"، ولكنها ربما لم تتصور أن يحدث ذلك بهذه السرعة وقبل إتمام الانسحاب، وربما أيضاً توقعت ما حدث ولكن لم يكن في وسعها منعه أو عرقلته.
واتصالاً بذلك، قال الرئيس "بايدن" إنه غير نادم على قراره، وإن أمريكا حققت أهدافها في أفغانستان، وهي القضاء على الملاذ الآمن الذي وفرته "طالبان" لتنظيم "القاعدة" قبل سنوات، وتم قتل أسامة بن لادن، زعيم تنظيم "القاعدة"، وإنه من غير الممكن أن تظل القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أجل غير مسمى، وعلى الأفغان أنفسهم حل مشاكلهم والتوافق فيما بينهم حول مستقبل بلادهم.
سوف يظل السقوط المروع لنظام الحكم والانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام "طالبان" محلاً للبحث، فهذه القوات لم ينقصها العدة والعتاد، إذ قام خبراء من الجيش الأمريكي بتدريبها وتزويدها بالأسلحة المتطورة.
ويمكن تفسير ما حدث في ضوء "نجاح طالبان" في تصوير الوجود الأمريكي على أنه "احتلال"، وأن الحكومة القائمة "ليست وطنية" وأنها "خاضعة للنفوذ الأمريكي".
وقد استغلت "طالبان" في ذلك أن بعض كبار المسؤولين الأفغان عاشوا في أمريكا لسنوات طويلة وأن بعضهم حمل الجنسية الأمريكية إلى جانب الأفغانية.
أضف إلى ذلك أنه على مدى العشرين سنة الماضية ظلت "طالبان" تسيطر على أغلب القرى الصغيرة، خصوصاً في المناطق النائية، ما سمح باستمرار تغلغلها في المجتمع وتوسيع قاعدة نفوذها فيه.
وهناك من رأى أن القوات الحكومية افتقدت الروح المعنوية والرغبة في القتال، خاصة في ضوء الصراعات والخلافات السياسية داخل النخبة الحاكمة، واستشراء الفساد في دوائر الحُكم.
وحسب رواية بعض الجنود الأفغان، فإنهم عانوا من نقص إمدادات الذخيرة والغذاء والتغيُّر المستمر في الخطط العسكرية، فضلاً عن وعود "طالبان" لهم بأنهم لن يصيبهم أذى إذا استسلموا، وذلك حسبما ورد في مقال بجريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية نُشر يوم 14 أغسطس الماضي.
وبغض النظر عن شكل نظام الحكم، الذي سوف يتم تبنِّيه في أفغانستان، فإن "طالبان" هي القوة الرئيسية فيه، وسياسات الحُكم سوف تتأثر بأولوياتها.. فهل تغيرت أفكار "طالبان" عن تلك التي سادت فترة حكمها خلال الفترة 1996-2001، أم أن فترة العشرين عاماً التي أُقصيت فيها عن الحكم قد خففت من غلواء معتقداتها وأفكارها؟
في هذا السياق، تطرح مراكز الأبحاث قضايا عدة، مثل سياسة "طالبان" تجاه عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي الموجودة على أراضيها، واحتمال أن تصبح أفغانستان مرة أخرى مركزاً لتنظيمات التطرف والإرهاب الموجَّه إلى دول العالم، وهجرة آلاف الأفغان إلى الدول المجاورة خوفاً من حُكم "طالبان".
لا أحد يستطيع أن يحسم هذه الموضوعات برأي قاطع.. فقد تتَّبع "طالبان" في الشهور الأولى لحُكمها سياسات معتدلة وتصالحية لكسب ود الشعب من ناحية، وللحصول على الاعتراف الدولي بها من ناحية أخرى.. وهي على الأرجح لن تُفصح عن نواياها الحقيقية في القريب العاجل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة