يعيش العالم خلال هذه الأيام القصة الأفغانية المثيرة للغاية.
فقد خرجت الولايات المتحدة دون تصور سابق بأن خروجها سيكون بمثل الطريقة التي تمت، إذ دخلت "طالبان" إلى كابول بسرعة ملفتة، حيث كان الجيش الأفغاني مستعدا للتسليم، والقيادات المحلية مستعدة للاتفاق، وباستثناء احتكاكات قليلة لم يكن هناك قتال أو دماء أو مذابح توقع كثيرون أن تشهد مناظر مروعة.. كانت هناك تسجيلات تليفزيونية في القصر الرئاسي، كما كانت هناك عودة للرئيس السابق، كرازاي.
وانقسم العالم إلى ثلاثة أقسام: الأول ضم الولايات المتحدة ودول حلف الأطلنطي، التي كان لها وجود في أفغانستان، وبعد الذهول راحت هذه تأخذ رعاياها في لحظات حزينة مختلطة بقدر غير قليل من الراحة.
في الولايات المتحدة نُصب سيرك كبير، فيه تبريرات للرئيس وهجوم لمن يعادونه، وإعلام لا يكف عن التساؤل: لماذا خرجت أمريكا بهذه الطريقة دون إعداد أو ترتيب؟ وهل تعود "طالبان" كما كانت قبل ربع قرن أم أن هناك "طالبان أخرى جديدة"؟، وهل تعود أفغانستان مرة أخرى لكي تكون حاضنة للإرهاب؟
القسم الثاني ضم دول الجوار القريب من الدولة الأفغانية، والتي قد تحفظت على الرحيل الأمريكي، وبينما كانت الصين واعدة بالتعاون مع "طالبان"، فإن روسيا أبقت سفارتها وكفى، ودول أخرى فضلت الانتظار.
أما القسم الثالث فكان فيه دول واجمة وقلقة ومنتظرة ما الذي يمكن أن تسفر عنه الأحداث، وبالتأكيد كان هناك تخوف من أن ما بدا من انتصار لـ"طالبان" يمكنه أن يكون زخما كبيرا لقوى إرهابية تظن أن دفعا كبيرا قد أتى، وربما يكون بشارة لوعود بفوز وانتصارات أخرى، لذلك لا بد للحكم على ما يحدث من تقدير موقف يضع الأمور في نصابها.
أول غيث التقدير يأتي من نصيحة الرئيس الفرنسي شارل ديجول، الذي كان عندما يسمع أحدا يثير قضية ما، فإنه فورا كان يطلب أن تأتيه الخريطة.
الرجل الكبير كان دائما يريد رؤية الموضوع في إطاره "الجيوسياسي"، ومنه يشتق الوضع "الجيواستراتيجي"، الذي هو الترجمة العملية لما يجب اتخاذه من قرارات.
أفغانستان في هذا الإطار دولة حبيسة، ومحاطة بمن هم أكبر وأقوى منها.. في شمالها توجد ثلاث دول هي تركمانستان وطاجيكستان وأوزباكستان، وهذه الدول لديها روابط مع روسيا، العملاق مساحة وشعبا وتسليحا ورغبة في ثأر من هزيمة قديمة.
في شمالها الغربي توجد الصين، وهذه تطلب دائما التعاون، وهي على استعداد للتعامل مع قوى متناقضة.
في شرق أفغانستان توجد باكستان، وهي خلطة من حليف تاريخي لـ"طالبان"، وعدو يريد التحالف دائما مع الولايات المتحدة.
وفي الجنوب بعد بحر العرب توجد الهند، وفي الغرب توجد إيران.
وإذا كانت إيران تريد تقليد تقاليدها السابقة، فإنها تريد تحويل إقليم الهزارات -9٪ من سكان أفغانستان البالغين 33 مليون نسمة- لما فعلته من قبل مع شيعة العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث تكون هناك تنظيمات مسلحة مثل "الحشد الشعبي" و"حزب الله" والحوثيون.
الجغرافيا هكذا قلقة ومهددة، وفيها من لا يقبل تعميقا للإرهاب والتطرف، وسوف يكون على "طالبان" أن تثبت براءتها من كل ذلك.
أفغانستان بعد ذلك كله ليست دولة عظمى أو غنية أو حتى مستورة، وهي تعيش على المعونات، التي تبلغ 80٪ من ميزانيتها السنوية، وناتجها المحلي الإجمالي لا يزيد على 23 مليار دولار، نصيب الفرد منه 493 دولار في العام، وهو نصيب الدول الأكثر فقرا في العالم.
لم يكن هناك جديد في ذلك عبر العقود الماضية، ولكن 20 عاما من الاحتلال الأمريكي أطلعت الأفغان على عوالم أخرى تخلق كثيرا من التوقعات، التي عندما تتقاطع مع التركيبة الطائفية يكون لها نتائج متفجرة، وهو ما عاشت عليه أفغانستان طوال تاريخها المعاصر.
هناك على الجانب الآخر من يسلم بذلك كله، ولكنه يضيف إليه أن أفغانستان دولة غنية وواعدة.. غنية بمعادن النحاس والليثيوم والأتربة النادرة، وهي معادن ضرورية لتحقيق الانتقال إلى الطاقة النظيفة وحماية المناخ، وقد أكد كل ذلك تقرير سنوي صدر عن المعهد الأمريكي للدراسات الجيولوجية، الذي قال إن أفغانستان دولة واعدة، وأضاف إلى كل ما سبق من وعود وعد "البوكسيت" والحديد، ولكن المعضلة في البلدان الغنية بكثير من الثروة المعدنية، أنها تحتاج إلى بنية أساسية واسعة ومكلفة في بيئة جبلية صُلبة.. والأهم تحتاج إلى المناخ الاستثماري المناسب.
الحقيقة أن العالم ليس واقفا أمام اختيارات صعبة فيما يتعلق بأفغانستان، وما إذا كانت ستضيف إلى التنمية والازدهار.. فـ"طالبان" هي التي تقف أمام هذا الاختيار الصعب بين أن تعود كما كانت أمام النظام العالمي، أو تكون قادرة على هزيمة نفسها وتاريخها لتبدأ مسيرة جديدة في دولة جديرة بالمكانة التي حققتها بالانتصار على دولتين عظميين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة