منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان واستيلاء "طالبان" عليها، والعالم يتساءل: هل ما فعلته أمريكا فخ للصين ليصبح "طريق الحرير" غير آمن؟
وهل إدارة "بايدن" بهذه البساطة لتترك لقوى أخرى السيطرة على بلد تتجاوز ثروته من النفط مليارَي برميل وموقعه الاستراتيجي لا تخطئه العين؟
اليوم حلفاء لأمريكا، وقبلهم خصومها، في حيرة من أمرهم لتحليل ما حدث.. فمنهم من قال إن السياسة الأمريكية تحتاج إلى إصلاح، بحسب بعض مستشاري الأمن القومي في إدارات عديدة، لكنني أتوقف عند ما كتبه غاري سيك، الذي عمل في مجلس الأمن القومي الأمريكي خلال رئاسة كل من "فورد" و"كارتر" و"ريجان" تحت عنوان "حان الوقت الآن لإصلاح شامل للسياسة الخارجية الأمريكية"، استهله قائلاً: "إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أضاعت فرصتها لإجراء إعادة تقييم أساسية لسياسة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط في فترة بداية ولايتها".
فقد كانت هناك أولويات محلية ملحة، ومقدار ضخم من الإصلاحات التي تعيَّن القيام بها في التحالفات الأمريكية، ولم يكن هناك إجماع وطني على أي شيء تقريباً، وكانت هناك جائحة فيروسية عالمية مستعرة.
وفي خضم كل ذلك، بدا الخروج من أفغانستان كأنه قرار سهل، إذ أعلن ثلاثة رؤساء على التوالي أنه ضروري، ووافق الرأي العام الأمريكي على ذلك، وتفاوضت إدارة دونالد ترامب على ما يعادل استسلاماً لحركة "طالبان"، وكل ما تبقى هو المضي قدماً في تنفيذه.
وجاءت الكارثة بشكل أسرع وأصعب مما توقعه أي شخص تقريباً، والآن ومع توجه اهتمام الولايات المتحدة ولو لفترة وجيزة نحو الإخفاقات السياسية للعقدين الماضيين في منطقة الشرق الأوسط، ربما توفر الأزمة الأفغانية فرصة للعودة إلى الأساسيات، وإجراء تحليل شامل للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
فعلى الأقل، منذ كارثة العراق، والإهدار الهائل للأموال والدماء، ومعظمها من غير الأمريكيين، استندت السياسة الأمريكية إلى العبثية، حيث تعارضت فوائد السياسة بشكل غريب مع تكاليفها العديدة، ولكن بسبب السياسات الداخلية، لم يكن من الممكن مطلقاً تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، والاعتراف ببساطة بحدود القوة الأمريكية، لتحويل سياسات المنطقة وتقليل البصمة العسكرية إلى مستوى يتوافق مع المسؤوليات والمصالح الوطنية الأمريكية.
ويلفت الكاتب في مقاله إلى أن المصالح الأمريكية في المنطقة تغيرت بمرور الوقت، كما تغيرت الحقائق على الأرض أيضاً.
ويضيف أن أحد الأهداف، التي يجب وضعها في الاعتبار في مثل هذه المراجعة، هو ما إذا كان من الممكن أن تسهم الولايات المتحدة في تحقيق توازن قوى إقليمي ذاتي التنظيم، وكيفية تحقيق ذلك.
ورغم وجود سبب كافٍ للشك في قدرة واشنطن على تطوير وتنفيذ استراتيجية متماسكة، فإن هذا ليس سبباً لتجاهل المشكلة، وقد تكون إحدى طرق التعامل مع ذلك هي قول الحقيقة، فالولايات المتحدة منتشرة عسكرياً بقدر يفوق طاقتها، وسياستها في الشرق الأوسط تكلف أكثر مما تستحق، ويجب التوقف عن الإنكار والتفكير في الخطوات العملية، التي يمكن اتخاذها لتحسين المنطقة في أثناء خروج الولايات المتحدة منها.
ويختتم الكاتب المقال بالإشارة إلى أنه "إذا كانت الولايات المتحدة تنتظر اللحظة المناسبة لإجراء إصلاح شامل للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، فهذه اللحظة قد حانت الآن..".. انتهى كلام غازي سيك.
أخبار هذا الأسبوع مليئة بالأحداث الأفغانية، التي كانت طاغية هنا في واشنطن على أغلفة كل الصحف وصفحات المواقع الرئيسية، لكن ما استوقفني بشكل خاص هو التقرير الذي أعده كل من جون هدسون وميسي رايان ونشرته صحيفة "واشنطن بوست" تحت عنوان "الانسحاب من أفغانستان يجبر الحلفاء والخصوم على إعادة النظر في دور الولايات المتحدة العالمي"، جاء فيه أن قرار الرئيس الأمريكي "بايدن" بالانسحاب من أفغانستان أثار إعادة تفكير شاملة حول دور الولايات المتحدة في العالم، حيث يناقش الحلفاء الأوروبيون حاجتهم إلى أداء دور أكبر في المسائل الأمنية، وتنظر روسيا والصين في كيفية تعزيز مصالحهما في أفغانستان الخاضعة لسيطرة "طالبان".
كما جدَّد خطاب "بايدن"، يوم الاثنين الماضي، عندما وقف "بقوة" وراء قراره بسحب القوات الأمريكية، واحدة من أكثر النقاشات سخونة في حقبة ما بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وهي: هل سيبعث الانسحاب من أفغانستان رسالة بالضعف وسيثير العدوان وسيحطم قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم؟ أم هل سيجسد إعادة تنظيم رصينة للمصالح الوطنية ويجعل البلاد في وضع أفضل للتعامل مع التحديات الجديدة للقرن الحادي والعشرين ويوضح للحلفاء والخصوم الأشياء التي قد تكون الولايات المتحدة مستعدة أو غير مستعدة لإنفاق الموارد عليها؟
كذلك فقد كان موقف الاتحاد الأوروبي مثار نقاش هنا بين الصحفيين قرب الكابيتول، ذلك أن الاتحاد الأوروبي عقد جلسة طارئة لوزراء الخارجية بشأن أفغانستان، يوم الثلاثاء الماضي، ووجه المسؤولون انتقادات نادرة لواشنطن لما أسموه "مخاطرتها" بتدفق اللاجئين إلى حدود أفغانستان وعودتها قاعدة للإرهاب في آسيا الوسطى، بل إن أحد الصحفيين أبلغني أن وزير دفاع لاتفيا، أرتيس بابريكس، قال في مقابلة إذاعية، يوم الثلاثاء، إن "هذا النوع من انسحاب القوات تسبب في فوضى"، مشيراً إلى زوال مشروعات بناء الدولة طويلة الأجل، وكيف أن قرار الانسحاب فُرض بشكل أساسي على الأوروبيين، وأكد أن "هذه الحقبة قد انتهت، ولسوء الحظ يُظهر الغرب -وأوروبا على وجه الخصوص- أنهم أضعف عالمياً".
وأيضاً توقف البعض عند وصف مرشح ألمانيا المحافظ لخلافة المستشارة أنجيلا ميركل، أرمين لاشيت، يوم الثلاثاء الماضي، انسحاب القوات الأمريكية بأنه "أكبر كارثة شهدها حلف الناتو منذ تأسيسه".
وفي الصين، حيث يُنظر إلى الانسحاب الأمريكي على أنه "يخلق مخاطر وفرصاً"، أخبر وزير الخارجية وانج يي، نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، في مكالمة هاتفية، أن المغادرة السريعة للقوات الأمريكية تسببت في "تأثير سلبي شديد"، كما أشار إلى تداعيات أوسع لهذا الانسحاب، قائلاً إنه أظهر عدم قدرة الولايات المتحدة على نقل نموذج أجنبي للحكم إلى دولة ذات سمات ثقافية وتاريخية مختلفة.
مهما يكن من أمر، فلا بد من التوقف عند قول بعض منتقدي الحرب في أفغانستان إن المزاعم حول فقدان عزم الولايات المتحدة ومصداقيتها تبدو جوفاء، وهذا الرأي أتشارك فيه مع ستيفن والت، الباحث في العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، حيث يقول إن "اتخاذ قرار بعدم الاستمرار في خوض حرب لا يمكن الانتصار فيها من أجل مصلحة أقل أهمية، لا يعني أن الولايات المتحدة لن تقاتل عندما تكون المخاطر أكبر، على العكس من ذلك، فإن إنهاء الحرب الطويلة وغير المجدية في أفغانستان سيمكّن واشنطن من تركيز مزيد من الاهتمام على أولويات أكبر".
لكنني أقول هنا إن القوة الأمريكية باقية رغم الخطأ الذي وقعت أمريكا فيه، سواء في تجربة فيتنام أو أفغانستان، وهو أن الأمريكيين وضعوا كل ثقتهم ف الأنظمة التي نصبوها دون بذل جهود قوية لتطوير مراكز قوة موازنة ومجتمع مدني قوي، وهو أمر ضروري لبقاء الديمقراطية الليبرالية.
لقد تصرفت أمريكا في فيتنام كما لو أن الشيوعيين فقط هم من يمكنهم أن يضطهدوا شعوبهم.. وبالمثل في أفغانستان، كانت أمريكا مهووسة بالراديكالية في الإسلام باعتبارها العدو الوحيد الجدير بالاهتمام، متجاهلة الفساد والفتنة، اللذين أديا إلى سيطرة "طالبان" في المقام الأول.
ويبقى ذلك التساؤل الذي يطرحه الحلفاء والخصوم باقياً لأيام وأسابيع قادمة، كما لو كان ما أقدمت عليه أمريكا من انسحاب من أفغانستان مثل تحريك قطعة على طاولة الشطرنج من طرف لا يمكن أن يُتهم بالغباء أبدا،ً حتى لو لم نفهم موقفه الآن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة