عودة "طالبان" للهيمنة على المشهد الأفغاني صارت واقعا "كقوة" لا كسلطة حتى الآن.
ويبدو أن الارتباك الأمريكي أمام هذا الواقع الماثل ينسحب على مواقف حلفائها الأطلسيين كما ينسحب على مواقف عدد من عواصم العالم، فآثر بعضهم موقف الترقب، وأفصح آخرون عن مواقف تكتيكية ريثما تنجلي التطورات وتتحدد بشكل أكثر وضوحاً اتجاهات البوصلة، التي تديرها "طالبان" بهدوء ودون استفزاز لأي طرف داخلي أو إقليمي أو دولي.
أيّاً كانت مسارات أفغانستان في اليوم التالي، تبقى القراءة الموضوعية لما حدث من حيث الشكل والمضمون متعلقة بدوافع ومرامي صانع القرار الأمريكي، الذي أوعز بتحريك البِرْكة الراكدة.
تلك القراءة تبدو هي المعيار الأكثر قابلية لتفكيك شفرة الحدث وتلمّس نتائجه المحتملة على المَدَيَين المنظور والبعيد.
هل يجوز الاستنتاج بأن ما حدث في أفغانستان جاء نتيجة منطقية للارتباك، الذي وسم سياسة الإدارة الديمقراطية للبيت الأبيض بزعامة جو بايدن منذ وصوله إلى السلطة قبل ما يقرب من تسعة أشهر أم لحسابات أخرى؟ هل "دهشة" بايدن وأركان إدارته إزاء المشهد الدراماتيكي في أفغانستان ناجم عن الصدمة، التي أحدثها ضعف الجيش والحكومة أم ناجم عن وثبة "طالبان" السريعة مسبقة التحضير كما يبدو؟
في أول تصريح له بعد بسط "طالبان" سيطرتها على أفغانستان، قال "بايدن": "أمريكا أعطت الجيش الأفغاني كل ما يحتاج إليه، لكن انهيار الحكومة كان أسرع من المتوقع".. يعكس هذا الموقف في القراءة الأولية توقع الرئيس الأمريكي انهيار الحكومة الأفغانية ولو بعد فترة زمنية أطول قليلا مما حدث.
لسنا هنا بصدد محاكمة صانع القرار الأمريكي، فهو الأكثر دراية ومعرفة بمصالح بلاده، لكن ما قاله "بايدن" يوحي بأن واشنطن كانت مطمئنة إلى أن الجيش الحكومي الأفغاني تم إعداده أمريكياً لمهمات عديدة، من بينها مواجهة "طالبان" في حال أقدمت على مهاجمة مؤسسات البلاد وسعت إلى السيطرة عليها بعد مغادرة الأمريكيين، وهذا ما لم يحصل.
خلال عشرين عاما من السيطرة الأمريكية على أفغانستان، تقلب على "البيت الأبيض" أربعة رؤساء، اثنان من الحزب الجمهوري هما جورج بوش الابن ودونالد ترامب، واثنان من الحزب الديمقراطي هما باراك أوباما وجو بايدن، وجميعهم لم يتمكنوا، على اختلاف فلسفات وأنماط حكمهم ومقاربات وسياسات كل منهم، من نقل أفغانستان إلى مرحلة الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، بل ظلت سياساتهم حبيسة تصورات أمنية وعسكرية فقط على حساب حاضر ومستقبل أفغانستان وشعبها، وتجاهلوا الخلل الحاصل في موازين القوى الأفغانية على الأرض لمصلحة حركة "طالبان" عُدّة وعتادا.
ومع الأخذ بعين الاعتبار كل هذه الحقائق، فإنه لا بد من انتظار زوال الغشاوة وتتبع مسار الحدث الأفغاني في ضوء "الدهشة" الأمريكية من جراء اجتياح "طالبان" لطول البلاد وعرضها في غفلة من الزمن لا تكاد تُحصى ساعاتها لقلتها، ولعدم مجابهتها من قبل أي قوات حكومية أو غير حكومية تحت أنظار وأسماع العالم.
مقتضيات السلطة وشروط قيامها لا تتوقف على عنصر القوة فحسب، قد تجد الولايات المتحدة قواسم مشتركة مع "طالبان" كقوة أمر واقع جديدة في كابول، ولكن ليس إلى ما لا نهاية بحكم طبيعة وموقع أفغانستان الجيوسياسي، ووجود مصالح لقوى إقليمية مؤثرة كالصين وروسيا والهند وباكستان، بعضها يتقاطع وبعضها يتعارض مع واشنطن، إضافة إلى تركيبة المجتمع الأفغاني العرقية والمذهبية والقبلية، والأهم مرتبط بمدى استعداد قادة "طالبان" لصياغة عقد اجتماعي ناظم للدولة والمجتمع والعملية السياسية، وضامن لحقوق الشعب الأفغاني وحريته ومشاركته في إدارة بلاده.
من الصعوبة بمكان التكهن بشكل أفغانستان الجديد بعد سيطرة "طالبان" على البلاد وفرض وجودها.. هي أرسلت تطمينات إلى جميع أركان المجتمع الدولي بأنها اليوم ليست تلك التي كانت قبل الاحتلال الأمريكي، لكنها متمسكة بضوابطها ومعاييرها الخاصة بفلسفة الحكم، الذي تسعى لإقراره، وستقدم، وفق وعود بعض المتحدثين باسمها، براهينها على حداثتها من خلال صياغة ملامح أفغانستان الغد بالتشاركية واحترام حقوق الإنسان ودور المرأة ورفض أن تكون البلاد ملاذاً لأي منظمات إرهابية، ولن تكون رأس حربة بيد أحد ضد أحد على المستويين الإقليمي والدولي.
هل نضجت "طالبان" سياسياً بحيث تكون مستعدة وقادرة على الانتقال إلى العمل في ميادين السلطة ودهاليز السياسة عبر الاحتكام إلى الدستور والقوانين في الداخل، وتقدير واحترام مصالح اللاعبين في الخارج؟ وهل ستستفيد من الوقت المتاح لها حاليا لتقديم رؤاها وبرامجها لإدارة شؤون البلاد والعباد بما ينسجم مع تعهداتها ويطمئن الجميع قبل فوات الأوان؟
ما ستفصح عنه "طالبان" في الأيام المقبلة من مواقف وتوجهات وممارسات سيكون إشارة هامة لاتجاهات الريح مستقبلا في أفغانستان من جانب، وامتحاناً جدياً لمدى التزام واشنطن بتعهداتها الأخلاقية ومدى صحة خياراتها تجاه الشعب الأفغاني من جانب آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة