من الصعب تصديق ما جرى في أفغانستان دون التيقن من وجود ترتيب مسبق لكل شيء، فسيطرة "طالبان" على كابول جاءت بعد محادثات عامين في غرف مغلقة.
بدا كل شيء منسقا مرتبا وسلسا.. لم تحدث اشتباكات تذكر.. الجيش الأفغاني سلَّم مواقعه وأسلحته لحركة "طالبان" بهدوء.. الرئيس الأفغاني، أشرف غني، غادر البلاد، لتدخل "طالبان" إلى القصر الرئاسي وتعلن من هناك وصولها إلى حكم أفغانستان.. القوات الأمريكية انسحبت إلى مطار "حامد كرزاي" لترحل عن هذا البلد بعد عشرين عاما من الغزو ووعود بالديمقراطية والاستقرار لم تتحقق جميعها خلال هذه الفترة.
وبهذا طُويت صفحة من تاريخ أفغانستان لتدخل البلاد في مرحلة جديدة مليئة بالأسئلة، في المقدمة منها: هل ستحكم "طالبان" وفق عقيدتها القديمة على أساس مبدأ الإمارة أم أن التغيرات العميقة في المجتمع الأفغاني خلال العقدين الماضيين ستدفع الحركة نحو فكر الدولة؟
مَن يراقب تصريحات قادة "طالبان" سيجد جملة من المتناقضات بين مَن يتمسك بنمطية الحركة وبين من يحاول ملامسة التغيرات الحاصلة ويحاول إرسال رسائل مختلفة إلى الداخل والخارج.
ففي الداخل، حرصت "طالبان" على القول إنها تغيرت، إذ أعلنت أنها ستسمح للفتيات بالذهاب إلى المدارس والعمل، وفي السياسة تحدثت عن حكومة تشاركية، وفي الخارج حرصت على إرسال طمأنة إلى الجوار بأنها تريد السلام والاستقرار وليس الحرب، لكن وعود ورسائل "طالبان" هذه قوبلت بشكوك من الجميع، خاصة أنها بدت تدخل في إطار المناورة السياسية، وفي إطار التمكين والتكتيك والمرحلية، وليست تعبيرا عن استراتيجية بعيدة المدى وأيديولوجيا حقيقية تؤمن بها الحركة.
وعليه، فإن كل التركيز منصب على سلوك "طالبان" في إدارة المرحلة المقبلة في أفغانستان، وكيفية تصرفها مع حقائق الواقع الأفغاني المعقد والمتداخل مع دول الجوار.
سيطرة حركة "طالبان" السريعة على العاصمة كابول لا تعني نهاية للأزمة الأفغانية، ووجود عقيدة عسكرية لدى مقاتلي "طالبان" لا يعني وجود اقتصاد يقف بالبلاد على عتبة تأمين سبل الحياة وتقديم الخدمات والتوجه نحو التنمية والبناء في بلد مدمر أصلا، وتبنّي عقيدة متشددة لإدارة البلاد لا يعني حل مشكلة القيم والمفاهيم وحرية الإنسان والتعددية والتسامح والتعايش الاجتماعي والإعلام.
الأهم هو كيف ستتعامل "طالبان" مع التنظيمات الإرهابية، التي وجدت في أفغانستان ملاذا طوال الفترة الماضية؟
تُنتظر من الحركة مواقفها مما يسمى "تطبيق الحدود" في العقوبات، وحظر التلفاز والموسيقى والسينما، والتي باتت كلها من سمات العصر الذي نعيشه، كما يُنتظر منها موقف واضح تجاه أمن دول الجوار والخارج، وألا يحدث بالداخل الأفغاني أي زعزعة للاستقرار تدعو لأي تدخل خارجي، كما حدث تاريخيا عندما غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان قبل أكثر من أربعة عقود، قبل أن يخرج منها مهزوما، ثم دخول الولايات المتحدة قبل عقدين قبل أن تخرج منها أيضا على يد "طالبان".
ربما من حق "طالبان" القول إنها هزمت الولايات المتحدة وحلفاءها في أفغانستان، كما من حق الولايات المتحدة القول إنها قلبت الطاولة في أفغانستان على دول مثل روسيا والصين وإيران بسبب دعمها "طالبان" لاستنزاف واشنطن، التي تقول إن أمنها الداخلي لم يعد مهددا من قبل "طالبان"، وأنها لم تعد قادرة على تمويل الحرب في هذا البلد المدمر.
فيما يبقى الأهم: كيف ستدير "طالبان" أفغانستان بعد اليوم؟ إنه السؤال الذي ينتظر الجميع معرفة جوابه كي يحدد بوصلة التعامل مع أفغانستان المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة