الغنوشي في تركيا.. إعلاء الأيديولوجيا على المصالح الوطنية
قطاعات سياسية تونسية معتبرة باتت ترى في حركة النهضة وكيلاً للنظام التركي في تونس
دخل الصراع في ليبيا مرحلة جديدة من المواجهات، إثر توقيع مذكرتي تفاهم بين تركيا وحكومة الوفاق غير الدستورية برئاسة فايز السراج، وموافقة برلمان أنقرة على إرسال قوات إلى طرابلس.
لكن الأزمة تعقدت أكثر على وقع توجه حركة النهضة التونسية إلى تعزيز ومساندة طموحات تركية في منطقة المغرب العربي، وبخاصة ليبيا، وهو ما ظهر في زيارة غير رسمية قام بها رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي لتركيا في 11 يناير/ كانون الثاني الجاري.
وقوبلت زيارة الغنوشى بعاصفة من الرفض والانتقادات من التيارات العلمانية التونسية المناهضة للدور التركي في ليبيا، خاصة أنها لم تكن الأولى من نوعها، حيث قام الرجل بزيارة مماثلة وغير معلنة في عام 2017.
ووبخت قوى المعارضة العلمانية حركة النهضة على الإصرار على التماهي الإيديولوجي مع أنقرة على حساب مصالح الدولة التونسية، وهو ما سيفتح الباب على مصراعيه أمام مشاهد سياسية جديدة سواء في علاقة تونس وأنقرة أو موقع حركة النهضة في الداخل التونسي، وهي التى فقدت رصيدا وافرا من قاعدتها بفعل توجهاتها المساندة لتركيا في الأزمة الليبية.
اعتبارات متعددة
مواجهة الضغوط: تتعرض حركة النهضة فى تونس إلى تراجع في الداخل، وظهر ذلك في العجز عن تمرير منح الثقة لمرشحها لرئاسة الحكومة الحبيب الجملي في البرلمان، ناهيك عن خروج حزب النهضة في تونس من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الأخيرة بهزيمة لم تكن متوقعة، نتيجة ما وصفه مراقبون بأنه "أزمة هوية" نظرا لإخفاقه في الفصل بين هويتيه الدينية وسياسته وعجزه عن تقديم حلول للأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها التونسيون.
وربما يعول الغنوشي على أردوغان الذي يشاركه الانتماء الإيديولوجي للتحايل على أزمة حركة النهضة.
على صعيد ذي شأن، اعتبر مراقبون أن الزيارة "استقواءً" بالحليف الإيديولوجي في وقت تتراجع فيه سياسياً وشعبياً قوة التيارات الدينية الممثلة في حركة النهضة في الداخل، وتزامن هذا التراجع مع فشلها لأول مرة منذ عام 2011 في تمرير حكومتها المقترحة.
توظيف الدعم: يسعى زعيم حركة النهضة إلى توظيف الدعم التركي لتونس للتحايل على أزمة الحركة في الداخل من جهة، والإمساك بمفاصلها من جانب آخر، لا سيما أن تركيا قدمت لتونس قروضا بفوائد مخفضة، فعلى سبيل المثال تم إقراض الحكومة التونسية قبل عامين 500 مليون دولار منها 100 مليون منحة لا ترد، كما وصلت شركات الاستثمار التركية في السوق التونسي إلى نحو 75 شركة.
في المقابل، لم يكن الدعم التركي للنهضة مجاناً، أو من دون مقابل، ففي نهاية العام الماضي تدخل البرلمان التونسي وفرض رسوما جمركية على أكثر من 90% من البضائع التركية لحماية الصناعة المحلية، وهو ما رفضته حركة النهضة وانسحبت من القاعة فور بدء التصويت، ما يدلل على انحيازها للاعتبارات الإيديولوجية على حساب الاقتصاد الوطني.
إحياء النفوذ الإيديولوجي: تتعاظم أهمية العلاقة مع تركيا في استراتيجية حركة النهضة، في ظل التطورات الإقليمية في المنطقة العربية، وتراجع نفوذ التيارات الدينية.
كما لا يمكن فصل ما يجري في الساحة الليبية عن طبيعة التوجه نحو توثيق العلاقة مع النظام التركي لمساندة التيارات المتطرفة المأزومة في غرب ليبيا، والتي تعرضت في الأيام الماضية لانتكاسة غير مسبوقة، بعد تمكنت قوات المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي من تحرير مدينة سرت، وتصاعد الانقسامات داخل المليشيات في مدينة مصراتة مركز نفوذ المتشددين بسبب فشل أداء حكومة السراج وحدود فعاليتها في حسم المشهد الليبي، وهو ما ترتب عليه استنزاف جانب معتبر من مقدرتها العسكرية والبشرية.
في هذا السياق، تمثل العلاقة مع النظام التركي حالة مهمة، حيث توفر أنقرة منصة نشطة في تعويض خسائر التيارات المتطرفة في المنطقة، بما يجعلها أكثر قدرة للتأثير في مساراتها بما يحقق مصالحها، خاصة في ظل موقف دولي وإقليمي مناهض لحضور هذه التيارات.
تنسيق المواقف: تزامنت زيارة الغنوشي التى جاءت قبل يوم واحد من لقاء السراج بالرئيس التركي، مع تصاعد خسائرها في ليبيا، وظهر ذلك في تمكن الجيش الوطني الليبي في الفترة الماضية من إسقاط وتدمير أكثر من 40 طائرة مسيرة تركية الصنع طراز Bayraktar TB-2.
كما دمر الجيش الوطني الليبي غرف عمليات الطائرات التركية المسيرة وهوائيات التحكم، بالإضافة إلى عشرات المدرعات من نوع كيربي. كما شهدت الأيام الماضية مقتل ثلاثة جنود أتراك وإصابة ستة آخرين، وهي أول خسائر تركية في العملية العسكرية بليبيا.
هذا مع إفادة المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقره لندن، مقتل 6 عناصر من الفصائل الموالية لتركيا في ليبيا، بينهم 3 عناصر من "لواء المعتصم" و3 عناصر من "السلطان مراد".
في هذا السياق، تسعى تركيا إلى دفع حركة النهضة لممارسة تأثير أكبر على مؤسسات الدولة التونسية لدعم المواقف التركية في ليبيا، خاصة أن أنقرة تدرك أن الدعم الذي تريد تقديمه لقوات السراج لا يمكن أن يتم من دون توفر دعم تونسي جوي وبحري.
التأثير على مقاربات الخصوم: تسعى تركيا وحركة النهضة إلى التأثير على مقاربات دول الجوار وبعض القوى الإقليمية المناهضة لدور أنقرة في منطقة المغرب العربي.
ويلاحظ أن زيارة الغنوشي لتركيا تزامنت مع نجاحات القاهرة في حشد موقف دولي مناهض للتحركات العسكرية التركية في ليبيا ناهيك عن تنامي التنسيق بين مصر والجزائر، وهو ما ظهر في زيارة وزير الخارجية المصري للجزائر في يناير/كانون الثاني الجاري لتنسيق المواقف حيال الأزمة في ليبيا.
تداعيات محتملة
استنكرت النخب التونسية الزيارة السرية التي أجراها راشد الغنوشي رئيس مجلس نواب، إلى تركيا والتي تمت وسط تعتيم إعلامي حول تفاصيلها، ولذلك فإن الزيارة قد تسفر عن تداعيات سلبية على حركة النهضة وأنقرة، ويمكن بيان ذلك على النحو الآتي:
تشويه الصورة: ساهمت زيارة الغنوشي السرية في تشويه الصورة الذهنية لحركة النهضة، وبدا ذلك في تكاثر الانتقادات الداخلية لتوجهات الحركة ورئيسها حيال تركيا، حيث اعتبرها بعض المراقبين في تونس، أنها تؤكد مدى انخراط الغنوشي وحزبه في محاور خارجية لا علاقة لها بمصلحة الوطن العليا وبالتحديات التي تعيشها تونس اقتصاديا واجتماعيا.
الاستقالة أو سحب الثقة: تعرض رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي لانتقادات واسعة في الداخل، وبدا ذلك في مطالبة أصوات حزبية للغنوشي بالاستقالة من رئاسة البرلمان أو مواجهة إمكانية سحب الثقة منه. كما اتهمته المعارضة السياسية بالإصرار على ربط قرار النهضة بتوجيهات تركية.
وتطور الأمر إلى حد مطالبة قوى سياسية في الصدارة منها الحزب الدستوري الحر وحزب المشروع التي تضم كتلتها النيابية 17 نائبا بضرورة سحب الثقة من راشد الغنوشي وتعيين شخصية أخرى على رأس البرلمان.
تصاعد حدة الاستقطاب: ساهمت زيارة الغنوشي لتركيا في تصاعد حدة الاستقطاب في الشارع التونسي، وبين القوى السياسية، خاصة في ظل تصاعد التصريحات والتصريحات المضادة.
ووبخت حركة النهضة منتقديها بالسعي إلى توظيف الزيارة لتشويه صورة الحركة، واعتبرت المعارضة أن تصرفات الغنوشي تمثل خرقا لقواعد الدستور، واستهانة بمؤسسة الرئاسة، لا سيما أنه لم يتم إعلام رئاسة الجمهورية بها مثلما تفرضه القاعدة البروتوكولية للعلاقة بين مؤسسات الدولة في تونس، كما أنها مخالفة للعرف البرلماني، لأنها لم تكن مدرجة في جدول أعمال مجلس نواب الشعب.
ختاماً، يمكن القول إن قطاعات سياسية تونسية معتبرة باتت ترى في حركة النهضة وكيلاً للنظام التركي في تونس، حيث كشفت الزيارة عن إعلاء الحركة لمبادئها الإيديولوجية على حساب المصالح الوطنية، وهو الأمر الذي ربما يزيد من حدة الاستقطاب السياسي في تونس التي لم تنقصها أزمات.
aXA6IDE4LjExNy43NS4yMTgg جزيرة ام اند امز