مع الأيام الأولى لقمة غلاسكو للمناخ، تبدو البشرية في علاقة جديدة جذريًّا بين القوة الإجمالية للحضارة والنظم الإيكولوجية للأرض.
ويتضمن ذلك على وجه الخصوص النظم الضعيفة الأكثر عرضةً للضرر، وهي الغلاف الجوي والتوازن المناخي، اللذان يعتمد عليهما استمرارُ ازدهار الجنس البشري، وبداية تحول عالمي هائل في الطاقة التي نمتلكها، والتقنيات الصناعية والزراعية والإنشائية، من أجل إعادة تأسيس علاقة سليمة ومتوازنة بين الحضارة الإنسانية والمستقبل.
يحتاج رؤساء العالم وقادته، الملتئم شملهم في المدينة الاسكتلندية، إلى الاستماع إلى عالم بوزن علم وقامة البروفيسور الروسي الأصل البلجيكي الجنسية والفيزيائي الأشهر، إيليا بريغوجين، ليشرح لهم كارثية ظاهرة الأنتروبيا، أو الاحتباس الحراري، ليستفيقوا أمام الغضب الساطع القادم ليُفني البشر والحجر.
جوهر الأزمة الناشئة المتولدة عن ظاهرة الاحتباس الحراري هو أننا نستورد كمياتٍ هائلة من الطاقة من قشرة الأرض، ونُصدّر الاحتباس الحراري إلى الأنظمة البيئية، التي كانت مستقرة سابقًا على رغم ديناميتها، والتي يتوقف عليها الازدهار المستمر للحضارة.
هذه التدفقات الجديدة للطاقة المستوردة أصلاً من الشمس إلى الأرض منذ عصور من الزمن، كانت قد استقرت تحت الأرض لملايين السنين كترسّبات خاملة من الكربون.
تاليًا، وعندما حرّكَ الإنسان الوقود الأحفوريّ واستخدمه في حياته الاعتيادية، ضخ مخرجات النفايات إلى الغلاف الجوي، ومن هنا بدأ تحطّم نمط المناخ المستقر، الذي استمر منذ فترة ليست طويلة بعد نهاية العصر الجليدي الأخير قبل عشرة آلاف سنة.
لم يكن ذلك قبل وقت طويل من نشوء المدن الأولى وبداية الثورة الزراعية، التي بدأت تنتشر في أودية نهر النيل ودجلة والفرات ونهر السند والأنهار الصفراء منذ ثمانية آلاف سنة، بعد أن قام رجال ونساء العصر الحجري بكل تأنٍّ بانتقاء وزرع الأصناف النباتية، التي لا يزال نظامُنا الغذائي الحديث يعتمد عليها في هذه العملية.
ما الذي سيحدث للكوكب الأزرق حال استمرار تدفّق الغازات الدفيئة من ميثان وكربون؟
حكمًا، سوف تعرف الإنسانية نمطًا جديدًا من المناخ يختلف كثيرًا عن النمط الذي عملت حضارتنا برُمّتها على تكوينه بإحكام، والذي يُشكّل جوهر ازدهارنا.
على أن التساؤل الأكثر أهميةً، والذي لا مناص من أن يطرحه الكبار والصغار في غلاسكو: إلى أين يقودنا هذا النمط الجديد؟
أفضل جواب نجده لدى الصحافي والكاتب الأمريكي كريستيان بارينتي، في مؤلّفه الشيّق "مدار الفوضى.. تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف".. وفيه يربط بين تغيُّر المناخ بالصراع الاجتماعي والعنف السياسي، اللذين يميّزان بعض مناطق العالم اليوم.
والمعروف أن "مدار الفوضى" جغرافيًّا هو ذلك الحزام على طرفَيْ خطّ الاستواء بين مدار السرطان ومدار الجدي، والذي تشهد دولُه صراعات عنيفة وحروبًا أهليّة وجريمة منظمة.. وهي المنطقة نفسها التي يضرب فيها تغيُّر المناخ بقوّة أشدّ من خلال دورات الجفاف وتكرار الفيضانات وحوادث الطقس العنيف.
تبدو رؤية "بارينتي" أقرب ما تكون إلى حزام مفخَّخ بيئيًّا إن جاز التعبير، يمرّ عبر ثلاث قارات، يبدأ من كينيا ومنطقة الساحل في شرق أفريقيا، حيث يتفاعل الجفاف مع إرث الحرب الباردة، والسياسات الليبرالية الجديدة في تأجيج العنف هناك.. ثم يتوجّه إلى آسيا الوسطى، حيث يبيّن تأثير الجفاف وأزمة المياه على الوضع في أفغانستان والصراع بين الهند وباكستان والحرب الأهلية في قرغيزستان، وأخيرًا يأتي إلى أمريكا اللاتينية ليبرز دور تغير المناخ في نشوء الجريمة المنظَّمة وازدهار تجارة المخدِّرات والهجرة..
ماذا يعني ذلك؟
باختصار غير مُخلٍّ، يفيد بأن قارات العالم المتقدّم، لا سيّما أوروبا وأمريكا الشمالية، لن تهنأ بالعيش وهي تعيش بالقرب من بركان ديمغرافي سيتحرّك نحوها حكمًا في لحظة زمنية بعينها، إن لم تعتدل أحوالُ المناخ.
من جانب آخر، فإنّ تقاعس أغنياء العالم عن دعم فقرائه سيعزّز عوامل التلوّث البيئيّ، لتضحي حرائق الغرب الأمريكي، وفيضانات الشرق الأوروبيّ والآسيويّ، عطفًا على جفاف غالبية مساحات الشرق الأوسط، تطوّرًا، وإن شئنا الدقّة، تدهورًا طبيعيًّا منتظَرًا، ما يُعزِّز القول بأنّ أوانَ استنقاذ الأرض قد فات، وأنّ البقيّة تحصيل حاصل ليس أكثر.
في رسالته إلى صُنّاع القرار السياسيّ المشاركين في مؤتمر الأمم المتّحدة السادس والعشرين للتغَيُّر المناخيّ، أشار البابا فرنسيس إلى أنّهم مدعُوّون بشكل ملِحٍّ إلى تقديم إجابات فَعّالة عن الأزمة البيئِيّة التي نعيشها، ورجاء ملموس للأجيال القادمة.
العالم، بحسب "فرنسيس"، مدعُوٌّ لتجَنُّب "مدارات الفوضى"، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مسؤولية مشتركة عالمية متجددة وتضامن جديد يقوم على العدالة والمشاركة في الطريق إلى مصير واحد، وعلى الوعي بوحدة العائلة البشرية.. إنّه تحدٍّ للحضارة لصالح الخير العام وتغيير للمنظور في العقل والنظرة، يجب أن يضع في محور جميع أعمالنا كرامة جميع الكائنات البشرية اليوم وفي المستقبل.
تبدو الأرض كأنها تستصرخ البشر من جَرّاء جَوْر الإنسان، وآية ذلك ما يجري للغابات، الكنز البيئيّ ورئة الكوكب المُهان في كرامته.. الغابة موجودة في كل مكان في حياتنا وتاريخنا ومخاوفنا وأحلامنا، وهي كذلك مصدرٌ أساسيٌّ للثروة والتنوع الأحيائي، ومع ذلك فهي تختفي شيئًا فشيئًا عن وجه الأرض، بفعل النرجسية غير المستنيرة والنهم والجشع البشريَّيْن، كما رأينا مؤخّرًا في حرائق غابات الأمازون، والأغراض لا تخفى عن أعين أيّ باحث محقِّق أو مدقِّق.
تمتد الغابة اليوم على أقلّ بقليل من أربعة مليارات هكتار، ما يعني أن نحو 30% من الأراضي الناشئة موزَّعةً بشكل غير متساوٍ أبدًا، إذ يقع أكثر من نصف مساحات الغابات في العالم في خمسة بلدان فقط: روسيا، البرازيل، كندا، أمريكا، الصين.. ويتمّ تدمير نحو ثلاثة عشر مليون هكتار كلَّ عام منها.
هل وصلت البشرية إلى نقطة اللا عودة مُناخِيًّا؟
أحد أهمّ الداعمين لهذا الرأي عالمُ المناخ الهندي الشهير "فيرابدان راماناثان"، المُتخصِّص في علم المناخ والأستاذ في جامعة كاليفورينا في سان دييجو، وعنده أنّ صرخة الأرض وصرخة الفقراء قد أصبحتا الآن صرخة الجميع، حيث أدى الاحتباس الحراري إلى تدمير نظام المناخ العالميّ.
"هل غلاسكو هي الربع الأخير من الساعة الحادية عشرة من تاريخ الراحل الرائع كوكب الأرض"، على حدّ تعبير الأمريكيّ هارولد لي ليندسي؟
قد يكون ذلك كذلك قولاً وفعلاً إلّا ما رَحِمَ ربُّك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة