لم يمض شهر على آخر تحذيرات للأمم المتحدة من اتساع رقعة كراهية الأجانب حول العالم في ظل وباء كورونا
مضى على إعلان "تحرير العبيد" في الولايات المتحدة أكثر من مئة وخمسين عاما، واليوم نشهد مظاهرات ضد العنصرية تمتد على طول البلاد وعرضها، ربما لم يعد في القوانين ما يميز بين البيض والسود، ولكن كثيراً من التمييز بين العرقين لا يزال موجوداً في الممارسات والأفكار.
برأي البعض، قد ينطوي هذا الاستنتاج على كثير من التعجل، ولكن عندما تعود إلى الوراء قليلا وتقرأ في الجهود الدولية للقضاء تماماً على الممارسات والأفكار العنصرية، تكتشف أن العالم قد فشل في هذه المهمة رغم تعدد المبادرات الأممية، وما يحدث في أمريكا اليوم يعكس الفشل واقعاً.
ثمة يوم دولي يحتفل به العالم كل عام للقضاء على التمييز العنصري، وهذا اليوم هو إحياء لذكرى الحادثة التي أطلقت فيها الشرطة في شاربفيل بجنوب إفريقيا النار على محتجين سلميين ضد قوانين المرور المفروضة من قبل نظام الفصل العنصري عام 1960، وقد قتل حينها 69 شخصاً.
اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري يقع كل عام في الحادي والعشرين من شهر مارس آذار، أي أن العالم احتفل بهذا اليوم في 2020 قبل شهرين فقط من التظاهرات التي انفجرت في الولايات المتحدة الأمريكية بعد مقتل مواطن من أصل إفريقي بطريقة بشعة من قبل رجل شرطة أبيض.
في اليوم العالمي للعنصرية هذا العام خرجت الأمم المتحدة لتذكر بالعقد الدولي للمنحدرين من أصل أفريقي الذي أقر مطلع 2015 وينتهي في 31 ديسمبر 2024، ذلك العقد الذي تبنى وفقاً للمنظمة، إطاراً متيناً لمعالجة الممارسات العنصرية عبر التنمية والاعتراف والعدالة في العالم.
انتصف العقد وقُتِلَ المواطن "الأسود" على يد الشرطي الأبيض، ليضع العالم أمام سؤال كبير حول قيمة هذا العقد وواقعيته، فما حدث للأمريكي جورج فلويد يمكن أن يحدث لما يقارب من 200 مليون شخص من أصل إفريقي يعيشون في دول الأمريكتين، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
قبل العقد الدولي، في مطلع الألفية الجديدة عقد في جنوب إفريقيا المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية وكره الأجانب، وتوصل المؤتمرون إلى برنامج عمل للقضاء تماماً على هاتين الظاهرتين في العالم خلال سنوات، ولكن بعد عشرين عاماً تشتعل أمريكا بالاحتجاجات المناهضة للعنصرية.
لم يمض شهر على آخر تحذيرات للأمم المتحدة من اتساع رقعة كراهية الأجانب حول العالم في ظل وباء كورونا.
قبل مؤتمر جنوب إفريقيا كانت هناك مبادرات دولية عديدة بدأت منذ تأسيس الأمم المتحدة منتصف القرن الماضي، كل المبادرات كانت تسقط مع التقادم، حتى تخرج حادثة مثل مقتل فلويد تعيد إحياء الحاجة لإصدار مبادرة جديدة، وهكذا استمر مسلسل المبادرات دون جدوى.
صحيح أن "السود" من أكثر من يتعرض للعنصرية حول العالم، ولكن ليس وحدهم من يعاني جراء هذا الداء الفكري إن جاز التعبير، الأجانب من مهاجرين ولاجئين يتعرضون للتمييز ذاته سلوكيا وليس قانونياً، في كل مكان تقريباً، كذلك حال الأقليات الدينية والعرقية والقومية.
الحقيقة أن هذا التناقض أو الفصام موجود إلى حد كبير في دول كثيرة حول العالم، ولا تختلف فيه الدول المتقدمة عن النامية كثيراً، لا نبالغ أيضا بالقول إن العنصرية تختلف بين الدول في الضحية فقط، ولكن النظرية أو الفكرة هي واحدة وتتلخص في تفوق وهمي لجماعة أو فئة من السكان.
لم يمض شهر على آخر تحذيرات للأمم المتحدة من اتساع رقعة كراهية الأجانب حول العالم في ظل وباء كورونا، ولم يمض شهر أيضا على أخر تحذيرات أممية من تمدد تلك الاتهامات التعسفية التي توجه للمهاجرين واللاجئين بنقلهم الوباء وخاصة في دول غربية، من بينها الولايات المتحدة.
ليس خافيا على أحد أيضاً أن الرئيس دونالد ترامب هو من بين القادة الغربيين الذين أرادوا دائماً إغلاق حدود بلادهم أمام المهاجرين واللاجئين، وليس بسر أيضا أن ترامب هو أبرز زعماء الشعبوية التي تمارس التمييز ضد الأجانب والمهاجرين واللاجئين والسود والمسلمين وحتى النساء.
عندما يخرج وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس ليقول إن المظاهرات في الولايات المتحدة مشروعة ومحقة، فهذا يعني أن العنصرية لا تزال تمارس هناك واقعا وليس ادعاءً، وهذا يعني أيضا أن الاحتجاج على التمييز العنصري بكل أشكاله وألوانه بات يتخذ طابع ثورة عالمية بعد مقتل فلويد.
وطالما أن المطالب مشروعة كما يقول ماس، فقد حان وقت الاحتجاج، وبات لزاما على الأمريكيين الاختيار بين مواجهة كورونا ومواجهة داء العنصرية الذي تفشى في بلادهم إلى حد وضع شرطي رجله فوق رقبة إنسان لمدة ثمان دقائق متواصلة أمام أعين الناس وكاميرات الهواتف والإعلام.
ليس الأمريكيون فقط هم من اختاروا الاحتجاج على موت فلويد، دول كثيرة شهدت تظاهرات في الشوارع، ودول أكثر شارك مواطنوها بالاحتجاج عبر الإعلام الجديد والتقليدي، الثورة ضد العنصرية والكراهية والتمييز تخص كل إنسان على الأرض، والمشاركة فيها شعبية ودولية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة