هل يُمثلُ وباء كورونا نهاية العولمة أم تقويضا لها؟ أم أن العولمة سوف تخرج منها بشكل جديد؟
صدر العدد الأخير من مجلة "الإيكونوميست" الأسبوعية البريطانية في 21 مارس/آذار وعلى غلافها صورة للكرة الأرضية وكُتب عليها بالخط الكبير "مُغلق" closed، وذلك في إشارة إلى مناخ الانغلاق والانكفاء على الداخل الذي أصاب أغلب دول العالم وأدى إلى إغلاق الحدود البرية، ووقف خطوط الطيران، وانتهاء حركة سفر البشر وعديد من السلع والبضائع، وتأجيل الأنشطة الرياضية العالمية والقارية. وهو الأمر الذي هلل له أنصار الاتجاهات اليمينية والشعبوية المُعادية للعولمة، واعتبروه انتصارا لسيادة الدولة والسياسات الحمائية وتراجعا للعولمة.
وتعالت أصواتهم بأخطار العولمة والأزمات التي أدخلت العالم فيها كالأزمة المالية الاقتصادية 2008 وأزمة التغيرات المناخية ثُم أزمة وباء الكورونا. بل وتنبأ بعضهم بأن الأزمة الراهنة سوف تكونُ نهاية للعولمة.
فما حقيقة الأمر؟ وهل يُمثلُ وباء كورونا نهاية العولمة أم تقويضا لها؟ أم أن العولمة سوف تخرج منها بشكل جديد؟ الحقيقة ليست بهذه البساطة، ولا توجد إجابة واحدة حاسمة ونحن ما زلنا في قلب الأزمة، فنحن لا نعرف متى ستنتهي ولا حجم الضحايا البشرية والخسائر الاقتصادية التي سوف تخلفها. وحتى الآن، فإن آثار الأزمة مُختلطة بمعنى أنها تتضمنُ جوانب مُعادية للعولمة وأُخرى مُدعمة لها.
جاء وباء كورونا ليقلب هذه التقديرات رأسا على عقب، ويترك الاقتصاديين في حالة حيرة وارتباك حول مسار الاقتصاد العالمي. فتوقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ينخفض مُعدل النمو إلى 1.5%، أي أقل من نصف المُعدل الذي أشار إليه تقرير صندوق النقد الدولي في يناير قبل الأزمة
أما عن المظاهر المُعادية للعولمة، التي تتمثلُ في قرارات الإغلاق والمنع والتركيز على الداخل لمنع انتشار وباء كورونا، فهي أمر طبيعي من مُنطلق حرص كل دولة على صحة مواطنيها وسلامتهم وعافيتهم، وهو حرص ينبغي أن يسبق أي اعتبار آخر، وهي إجراءات من الأرجح أن تكون مؤقتة إلى حين هزيمة هذا الوباء الذي وصفه رئيس منظمة الصحة العالمية بأنه "عدو البشرية". ثُم إن الإجراء الأساسي لمنع انتشار الوباء هو الاحتفاظ دائما بما يُسمونه "المسافة الاجتماعية" social distance وجوهرها التباعد البشري والاجتماعي وعدم المخالطة بل والانعزال عن الآخرين. وهي ممارسات وقيم تُخالف قيم العولمة التي تدعو إلى التواصُل والتفاعُل والترابُط في داخل الدولة الواحدة وعلى مُستوى العالم. وفي الاتجاه نفسه، تراخت ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي عن الاستجابة لطلب إيطاليا مساعدتها في المحنة التي تواجهها.
أما المظاهر المُدعمة للعولمة فنجدها في كيفية انتشار الفيروس، وآليات ُمكافحته، ونطاق تأثيراته. وهي كُلها مؤشراتُ على أن العولمة قد أصبحت حقيقة واقعة في عالمنا المعاصر. فانتشار الوباء من الصين ليغطي سائر الكُرة الأرضية وكل قاراتها في زمن وجيز يُشير إلى حجم وكثافة الاتصالات بين البشر، والترابط بين الدول والمُجتمعات. ثُم إن آليات مكافحة انتشار المرض في داخل كُل دولة، وتوفير متطلبات الوقاية والرعاية الطبية يحتاج إلى تآزر عالمي.
وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" يوم 17 مارس/آذار أن إحدى الشركات الصينية العملاقة سوف تبيع مليون كمامة ونصف مليون حزمة أدوات طبية إلى الولايات المُتحدة، وأن الصين أرسلت مُساعدات طبية مماثلة لليابان، وكوريا الجنوبية، وإيران، وإيطاليا، وإسبانيا، خصوصا للعاملين في المجال الصحي، بسبب أنهم أكثر الناس عرضة للإصابة. وفي 19 مارس/آذار تسلمت فرنسا من الصين مليون كمامة طبية، ومليون ونصف المليون قفازات واقية، و10 آلاف بدلة واقية لاستخدام الأطباء ومُعاونيهم.
ووجه وزير الخارجية الفرنسي الشكر للحكومة الصينية على هذا الدعم، وعلى تضامنها مع الشعب الفرنسي. كما أرسلت الحكومة الصينية أطباء ومتخصصين لنقل خبرتها في مكافحة المرض إلى عدد من الدول، وبالذات بشأن كيفية إجراء اختبارات سريعة ودقيقة للكشف عن المرض وأساليب الوقاية منه. وأسهمت روسيا بتقديم مُساعدات طبية لعدد من الدول لمكافحة الوباء، من أبرزها إيطاليا، فأرسلت عددا من الطائرات التي حملت مائة من الأطباء العسكريين والمتخصصين في مكافحة الأوبئة، وكميات من المستلزمات الطبية للوقاية من المرض. وعلى مُستوى التعاوُن الإقليمي، دعا رئيس وزراء الهند إلى مؤتمر لقادة دول جنوب آسيا جرى فيه الحوار عن طريق الفيديو، وذلك للتنسيق بين سياسات هذه الدول في مُكافحة الوباء.
وتبدو تجليات العولمة واضحة أيضا في نطاق التأثيرات التي خلفها هذا الوباء، وأبرزها التأثيرات الاقتصادية، فقد تراجعت البورصات وأسواق المال في العالم، وتأثرت بما يحدثُ في بعضها، ما يؤكدُ أننا نعيشُ في اقتصاد عالمي مُترابط. وكان لإغلاق بورصة نيويورك في 16 مارس/آذار بداية لسلسلة من التراجعات والانهيارات في بورصات العالم الأخرى، ومؤشر على أن الاقتصاد العالمي يُمكن أن يكون على أبواب مرحلة ركود.
وعلى عكس التوقعات المُتفائلة للمؤسسات الاقتصادية العالمية عن مُعدل النمو الاقتصادي في عام 2020، توقع الاقتصادي المصري-الأمريكي الشهير الدكتور محمد العريان في تحليل نشرته مجلة "الشؤون الخارجية" بتاريخ 18 مارس/آذار، حدوث تراجع مستمر في مُعدل نمو الاقتصاد العالمي في هذا العام. ويدل على ذلك على أنه في تقرير لصندوق النقد الدولي في يناير/كانون الثاني من هذا العام توقع أن يرتفع نمو الاقتصاد العالمي من 2.9% في عام 2019 إلى 3.3% هذا العام، ولكن جاء وباء كورونا ليقلب هذه التقديرات رأسا على عقب، ويترك الاقتصاديين في حالة حيرة وارتباك حول مسار الاقتصاد العالمي.
وتوقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ينخفض مُعدل النمو إلى 1.5%، أي أقل من نصف المُعدل الذي أشار إليه تقرير صندوق النقد الدولي في يناير/كانون الثاني قبل الأزمة. ويحذر بعض الاقتصاديين من أن هذا المُعدل مرشح لمزيد من الانخفاض في الأسابيع والشهور المقبلة.
رافق ذلك حالة من الاضطراب بسبب اعتماد المصانع في عدد كبير من الدول على مكونات إنتاجها القادمة من الصين التي توقفت لفترة، فتعتمد الصناعات الإلكترونية مثلا في الولايات المتحدة على ما يقرُب من نسبة 50% على مكونات يتم استيرادها من الصين. وأُوقفت شركة فولكسفاجن لصناعة السيارات مصانعها في ألمانيا وإيطاليا وسلوفاكيا والبرتُغال وإسبانيا، بسبب عدم انتظام ورود مكونات الإنتاج أو لعدم القُدرة على نقل إنتاجها إلى أسواق البيع.
كان للعولمة تأثير آخر إيجابى، فقد مكنت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات العديد من الهيئات الحكومية والشركات التي لا تُنتجُ سلعا مادية من الاستمرار في العمل، وأن يقوم العاملون فيها بأداء وظائفهم من المنزل work from home، وأسهمت أدوات التواصُل الاجتماعي في تقليل الآثار السلبية المُترتبة على التباعد الاجتماعي والعُزلة المكانية التي فرضها هذا الوباء على ملايين البشر.
نحنُ إذن نواجه أزمة أو محنة لا نعرفُ متى أو كيف سوف تنتهي. ومن ثم يكون من الخطورة بمكان التمسُك بآراء جازمة أو قطعية بشأن المُستقبل. التحدي المُباشر أمام العالم اليوم هو وقف انتشار المرض، وهي مُهمة ذات طابع عالمي تتطلب التعاون بين الدول ومُساعدة بعضها، وهو المعنى الذي أكده أنطونيو غوتيرتش الأمين العام للأمم المُتحدة في حديثه يوم 23 مارس/آذار.
وعندما تنتهي هذه الأزمة أو المحنة، فمن الأرجح أن العالم لن يعود إلى سابق عهده. وسوف تتغيرُ موازين القوى والمصالح سواء على مُستوى العلاقة بين القوى الكُبرى أو بين دول الاتحاد الأوروبي أو في أوضاع الدول النامية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة