هدار غولدين.. جثمان واحد يعيد ترتيب أوراق حرب غزة
بعد أكثر من عقدٍ على مقتله في حرب غزة عام 2014، يعود اسم هدار غولدين ليتصدّر العناوين مجددًا — ليس كضابط مفقود فحسب، بل كمفتاح سياسي محتمل في صفقة معقدة تربط بين واشنطن وتل أبيب وحركة حماس.
فالجثمان الذي ظلّ حبيس الأنفاق لأكثر من عشر سنوات تحوّل، وفق دوائر القرار الأمريكية، إلى أداة اختبار لمسار جديد في غزة؛ مسارٍ تحاول إدارة الرئيس دونالد ترامب من خلاله هندسة «نموذج مصغّر» لتفكيك الأنفاق ونزع سلاح حماس عبر تسوية إنسانية ـ أمنية واحدة.
وبينما تتزايد التسريبات حول وساطات يقودها الصليب الأحمر وممثلون مصريون للعثور على جثمان غولدين وتسليمه، تتهم إسرائيل حماس بـ المقايضة السياسية، فيما تراهن واشنطن على أن إعادة الجثمان قد تفتح الباب لإنهاء أزمة المسلحين المحاصرين في رفح وتمنح نتنياهو نافذةً لتسوية أوسع نطاقاً.
غولدين.. الضابط الذي اختفى في الأنفاق
وُلد هدار غولدين عام 1991، والتحق بالجيش الإسرائيلي في وحدة النخبة المكلفة بتحديد أنفاق حماس وتدميرها. في الأول من أغسطس/آب 2014، وأثناء سريان وقف إطلاق نار إنساني لمدة 72 ساعة خلال حرب غزة التي استمرت 6 أسابيع، تعرضت وحدته لهجوم مفاجئ من مسلحين قرب مدينة رفح.
وقُتل غولدين مع جندي آخر هو آرون شاؤول، وجرى احتجاز جثمانه داخل القطاع. ومنذ ذلك الحين، ظل اسمه يتردد في بيانات الجيش الإسرائيلي ضمن قائمة الرهائن القتلى الذين لم تُستعد رفاتهم.
وقد نفذ الجيش الإسرائيلي على الفور "إجراء هانيبال"، الذي كان يهدف إلى منع اختطاف الجنود، وأطلق المدفعية الثقيلة لعرقلة هروب الخاطفين.
وبقيت قوات جفعاتي في المنطقة لمدة ثلاثة أيام تبحث دون جدوى عن غولدين.
ورغم مرور أكثر من عقد على مقتله، لم تعلن حماس رسميًا امتلاكها لجثمانه، فيما أكدت إسرائيل مرارًا أن جثمانه «محتجز في غزة»، إلى أن كشفت تقارير هذا الأسبوع أن الحركة عثرت مؤخرًا على الرفات بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكن عملية التسليم لم تتم بعد.
وتحوّل اسم هدار غولدين إلى رمز عسكري وعائلي في إسرائيل، إذ طالبت أسرته على مدى سنوات متكررة بضرورة إدراج ملفه في كل مفاوضات تهدئة مع حماس.
وكان والده، سيمحا غولدين، قد وجّه انتقادات متكررة للحكومات الإسرائيلية السابقة متهماً إياها بـ«ترك ابنه في غزة»، معتبراً أن استعادته «مسألة كرامة وطنية».
تفاصيل الساعات الأخيرة
كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر تستعد مساء الجمعة لتسلّم الجثمان تمهيدًا لنقله إلى إسرائيل، إلا أن العملية توقفت في اللحظات الأخيرة، وسط اتهامات إسرائيلية لحماس بأنها تربط تسليم الجثمان بخروج نحو 200 مسلح محاصرين في أنفاق رفح.
والأحد، نقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن حماس تنتهك الاتفاق لامتناعها عن إعادة رفات الضابط الإسرائيلي الملازم هدار غولدين، بعد قرابة أحد عشر عامًا ونصف من مقتله واختطافه في غزة.
وقال مسؤول إسرائيلي كبير إن الحكومة تنظر إلى التأخير "بخطورة بالغة"، مضيفًا أن "إسرائيل تطالب بإعادته فورًا".
وقالت الصحيفة: "في الأسابيع الأخيرة، سعت حماس إلى تحرير حوالي 200 من مقاتليها الذين ورد أنهم عالقون في أنفاق بمنطقة رفح. وقد فشلت حتى الآن المقترحات التي قدمتها حماس والوسطاء".
وصرح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير، في البداية أنه سينظر في إطلاق سراح المحاصرين فقط مقابل رفات غولدين، التي كان يُعتقد أنها موجودة في نفس المنطقة.
لكن في اجتماع المجلس الوزاري الإسرائيلي الأمني "الكابيت" يوم الخميس، قال زامير إنه "لن يكون هناك اتفاق"، متعهدًا بأن المسلحين "سيتم القضاء عليهم أو تسليم أنفسهم واستجوابهم".
وبعد وقت قصير من إعلان حماس مساء السبت عن تحديد مكان غولدين، زار زامير منزل العائلة لإطلاعهم على التطورات.
وأكد الجيش الإسرائيلي زيارة زامير، قائلاً إنه أطلع العائلة على التفاصيل المعروفة للجيش.
وقال الجيش في بيان: "أكد رئيس الأركان التزامه والتزام الجيش الإسرائيلي بإعادة هدار وجميع الأسرى الذين سقطوا إلى ديارهم". "وشدد على أهمية ضبط النفس في هذه اللحظات الحساسة حتى اكتمال التحقق".
وغولدين هو الوحيد من بين الجثامين المستهدفة بالاستعادة الذي لا يعود إلى أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل إلى حرب سابقة، مما جعل ملفه رمزياً ومعقداً في آن واحد.
وقالت العائلة في بيان لاحق: "البلاد بأسرها تنتظر عودة هدار إلى الوطن. هذه مهمة يجب، بل ويمكن، إنجازها من أجلنا جميعًا. نحيي كل من شارك في هذا الجهد الوطني، وننتظر تأكيدًا رسميًا بعودة هدار إلى إسرائيل. نناشد الجمهور التزام الهدوء".
رد حماس
وفي هذا الإطار حملت حركة حماس في بيان، السلطات الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن الالتحام مع عناصرها المحاصرين في رفح داخل منطقة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
وطالبت حركة حماس الوسطاء بـ«إيجاد حلٍ لضمان استمرار وقف إطلاق النار، وعدم تذرع إسرائيل لخرقه، واستغلال ذلك لاستهداف الأبرياء والمدنيين في غزة».
وأشارت إلى أن «عملية استخراج الجثث جرت خلال المرحلة الماضية في ظروف معقدة وبالغة الصعوبة، ورغم ذلك التزمنا بما هو مطلوب منا في الاتفاق».
وتابعت: «نحن نؤكد أن استخراج ما تبقى من جثث بحاجةٍ إلى طواقم ومعدات فنية إضافية».
واشنطن على الخط
في المقابل، قال مسؤول أمريكي رفيع لوسائل إعلام محلية في تصريحات نقلتها «القناة 12» الإسرائيلية، إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تعمل على تحويل هذا الملف إلى «صفقة اختبارية» لحل أزمة المسلحين المحاصرين في أنفاق رفح.
وأوضح أن واشنطن ترى في المسلحين «بؤرة توتر تهدد اتفاق وقف إطلاق النار»، وأن إعادة جثمان غولدين قد تفتح الباب لاتفاق ميداني أوسع يشمل تفكيك الأنفاق واستسلام المسلحين.
وأضاف المسؤول أن حماس، الصليب الأحمر، وممثلين مصريين شاركوا خلال الساعات الـ24 الماضية في عمليات بحث ميدانية داخل رفح للعثور على الجثمان، مؤكداً أن إعادة غولدين ستمنح بنيامين نتنياهو مساحة سياسية أكبر لإنهاء الأزمة مع المسلحين.
السيناريو الأمريكي المقترح
وبحسب التسريبات، فإن خطة إدارة ترامب تسير على النحو الآتي:
- إعادة جثمان هدار غولدين إلى إسرائيل.
- استسلام المسلحين داخل الأنفاق وتسليم أسلحتهم.
- منح عفو جزئي للمستسلمين.
- نقلهم إلى مناطق تحت سيطرة حماس أو إلى دولة ثالثة (لم تُحدد بعد).
- تدمير الأنفاق التي تحصّنوا فيها.
وقال المسؤول الأمريكي إن الهدف هو «عرض نموذج أولي لنزع سلاح حماس بوسائل سلمية»، مضيفاً أن الصفقة قد تصبح قاعدة لأي اتفاقات مستقبلية تشمل تفكيك البنية العسكرية للحركة.
ضغوط سياسية وتحركات دبلوماسية
ومن المتوقع أن يصل ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، مبعوثا الرئيس ترامب، إلى إسرائيل خلال الأسبوع المقبل لمتابعة الملف، في ظل تصاعد الضغط الأمريكي على تل أبيب للموافقة على الخطوة بمجرد تسلم الجثمان.
وبحسب المصدر الأمريكي، فإن واشنطن تسعى إلى «ربط هذا الملف الإنساني بمشروع سياسي أوسع» يعزز فرص تثبيت وقف إطلاق النار في غزة، ويقوّض قدرة حماس على استخدام الأنفاق كورقة تفاوض عسكرية.