أرض المندوب.. ملكيات خاصة متوارثة تسعى حماس لانتزاعها
سلطة الأراضي التي تديرها حركة حماس حاولت فرض رؤيتها في ملف ملغوم بقي دون حل حاسم رغم تعاقب الحكومات المختلفة.
بتجريفها عدة منازل وأراض، جنوب قطاع غزة، حاولت سلطة الأراضي التي تديرها حركة حماس فرض رؤيتها في ملف ملغوم بقي دون حل حاسم رغم تعاقب الحكومات المختلفة.
عمليات التجريف التي نفذتها سلطة الأراضي التي تصاعدت في الأسابيع الأخيرة، فجرت حالة غضب شعبي واسعة وعارمة رفضا لمحاولة فرض أمر واقع لانتزاع ما يعرف بـ"أرض المندوب"، بما يتجاوز ما يعتبره السكان حقوقا متوارثة على مدار عقود.
وأرض "المندوب" واحدة من تصنيفات ملكيات الأراضي في قطاع غزة، وتتركز في خان يونس ورفح جنوب قطاع غزة، وتبلغ مساحتها نحو 9 آلاف دونم.
"العين الإخبارية" تفتح هذا الملف الشائك، الذي أثار حالة استقطاب داخلية، ووحد لأول مرة عشرات العائلات في إطار واحد لمواجهة أي محاولة من سلطات حماس للسيطرة على هذه الأرض.
ما المقصود بأرض المندوب؟
الخبير القانوني أمجد الأغا يؤكد أن أرض المندوب التي حملت هذا الاسم من دلالة المندوب السامي البريطاني، خلال وقوع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني عام 1917.
وأوضح أن أصل المشكلة يرجع إلى قرار الإدارة العسكرية للانتدب، تحديدا الجنرال آرثر موني في 8 مايو 1918 وقفَ جميع معاملات ملكية الأراضي العثمانية الخاصة وإغلاق دوائر تسجيل الأراضي (الطابو)، بعدما أخذت السلطات التركية خلال انسحابها إلى دمشق جميع دفاتر «الطابو»، ليضم بعدها المندوب مساحات شاسعة من خان يونس ورفح إلى الأراضي الحكومية.
وبين أن المندوب السامي البريطاني آنذاك لاحظ وجود مساحات شاسعة في كل من محافظتي خان يونس ورفح تقع شرق المحررات وقابلة للزراعة فقام بضمها إلى طائفة الأراضي الحكومية (منها الأرض المُقام عليها مدينة أصداء بخان يونس) أما الأراضي الواقعة غرب المُحررات والمُسماة (المواصي) فلم تكن قابلة للزراعة والاستغلال آنذاك لأنها كانت عبارة عن كثبان رملية غير مستوية وتُقدر مساحة هذه الأراضي في محافظة خان يونس ب(6820) دونم وبمحافظة رفح بِ (2290) دونم وفق إحصاء سلطة الأراضي بغزة.
وأوضح أن حائزي هذه الأراضي الواقعة غرب المستوطنات الإسرائيلية سابقا مع المندوب السامي آنذاك على تطويب الأراضي المنخفضة القابلة للزراعة ودفع الضرائب مقابل ذلك، بينما تبقى الأراضي المرتفعة المتمثلة في الكثبان الرملية دون تطويب (تسجيل) ولكن تبقى تحت حيازتهم استعمالاً واستغلالاً وتصرفاً وسُميت منذ ذلك الحين (بأراضي المندوب السامي البريطاني) أي تُنسب له اسماً لكن حق التصرف بها كاملاً يستمر لحائزيها وفق الاتفاق المشار إليه أعلاه.
وأكد أن الاتفاق آنذاك تضمن تثبيت حدود واضحة تفصل الأراضي الحكومية الواقعة شرقاً (المحررات حالياً) عن الأراضي المندوب المملوكة للناس والمتمثلة في المواصي حالياً الواقعة غرب المحررات وقد تجلّت هذه العلامات الفاصلة في كتل خرسانية على شكل مخروط دائري.
وفعليا يمكن ملاحظة استقرار التصرف بهذه الأراضي منذ ما يزيد عن 100 عام قبل الانتداب البريطاني على فلسطين ويظهر ذلك من عمر الأشجار والمباني وتوارث الأجيال والتعامل بها وفق منطق الملكية الكاملة، حسب الأغا.
استقرار حال هذه الأراضي، دون إيجاد حلي جذري بقي طوال عقود ومع الحكومات المتعاقبة، لحين محاولة سلطات حماس فرض أمر واقع بالسيطرة على هذه الأراضي بالقوة.
شرعنة المصادرة
وفي عام 2013 أصدرت حماس عبر إدارتها الحكومية لغزة قرارا بتخصيص 45٪ من أراضي المندوب للحائزين عليها مقابل سداد ثمنها، وذلك وفقا لإجراءات محددة تقوم بها لجنة خاصة، ويتم تسجيل الأرض بعد سداد ثمنها باسم المستفيد لدى (الطابو)، فيما تستولي سلطة حماس على 55٪ من تلك الأراضي لصالحها.
وأكد الأغا ان هذه التسوية تنطوي على إجحاف وتعسف لأن أراضي (المندوب) تتمتع بخصوصية تقترب من التكييف القانوني والواقعي الى الأراضي "الموات" التي أحياها السكان، إضافة الى عدم مراعاة الظروف التاريخية التي أحاطت بتسمية هذه الأرض باسم (المندوب) والتي جاءت في اطار مشاريع التسوية التي قامت بها حكومة الانتداب البريطاني، ولم تراع مصالح السكان وكان هدفها استعماري لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين.
تدمير منزل يفجر الأزمة
وفي إبريل الماضي، وصلت قوة أمنية مع طواقم سلطة الأراضي في حماس، ودمرت منزل محمد الأسطل الذي كان قيد الإنشاء؛ بذريعة أن الأرض حكومية.
تدمير منزل الأسطل الذي تعد عائلته واحدة من أكبر عائلات قطاع غزة، ومن أكثر العائلات التي تملك أراضي مصنفة مندوب، فجر الأزمة، وأشعر السكان بخطورة المخططات الرامية للاستيلاء على أراضيهم؟
وقال الأسطل لـ"العين الإخبارية": إن المنزل المدمر مقام على أرض مندوب تحت يد العائلة ضمن أراضي المندوب، وهي أرض متوارثة منذ أجيال ولم يتم تسجيلها في عهد الانتداب البريطاني.
كما نفذت سلطة الأراضي تجريف لأراضي عائلة الفرا التي كشفت عن تلقيها إخطارا بعدم زراعة الأرض المتبقية تحت ايديها (50 دونما) بحجة ان الأرض في الطابو مازالت باسم المندوب السامي.
اجتماعات متوالية عقدتها العائلة، وعائلات أخرى التي استشعرت خطورة مخططات سلطات حماس تجاه أراضيهم لا سيما أن مخطط التجريف استمر وطال منازل وأراضٍ جديدة لعائلات أخرى، فيما بدا محاولة فرض أمر واقع جابهه الأهالي بالتكتل والموقف الموحد؛ الذي جمع حتى أفراد منتمين لحماس مع باقي التنظيمات.
وتتحدث سلطة الأراضي في حماس، أن 12 ألف دونم من الأراضي الحكومية عليها تعديات زراعية وسكنية، ما يعني أنها تضعها في دائرة الاستهداف.
حماس تخالف ما فعلته الحكومات المتعاقبة
ويؤكد الدكتور سامي الأسطل، أستاذ التاريخ، وعضو لجنة أهلية متعلقة بأزمة أراضي المندوب، لـ"العين الإخبارية" أن أغلب ملاك أراض المندوب والتي في حكمها يتصرفون في أراضيهم تصرف المالك الحقيقي ويتوارثونها أبا عن جد على أنها أراض لهم خالصة.
وعزا عدم تسجيل تلك الأراضي في الطابو سابقا، لأسباب موضوعية متعلقة بتكلفة التطويب التي كانت باهظة، وقبل ذلك رفضا للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي في هذا الملف.
وقال: "في كل السلطات السابقة من البريطانيين ومصر والاحتلال والسلطة كانوا يفتحون باب تطويب تلك الأراضي للناس دون انتقاص شيء منها، لكن الآن سلطة الأراضي (تديرها حماس) تنفي ملكية الناس لأراضيهم وهي بذلك جاءت بشيء لم يأت به غيرها من قبل".
وأشار إلى أن السلطات الحكومية التي تديرها حماس تعتبر أراضي المندوب حكومية حتى لو كان للناس عليها بيوت او زراعة، وحاولت انتزاعها بالقوة، منبها إلى أنه من الصعب انتزاع تلك الأرض من الناس.
وقال: في عهد الاحتلال وغيره لم يخرج الناس من هذه الاراضي وهذا يدلل دلالة واضحة انها ملك للناس حتى لو كانت غير مسجلة في الطابو".
وأشار إلى أن اللجنة التي شكلتها العائلات تهدف إلى إيجاد تسوية منصفة للملاك، مبينا أنهم مع تطويب الأرض كاملة وعدم التنازل عن أي مساحة منها، فلا أحد يرضى ان تخرجه الحكومة من ارضه مهما كان..
وأمام غضب الأهالي، أعلنت سلطة الأراضي فتح باب تسجيل أراضي المندوب، ولكن حتى اليوم منذ انطلاق التسجيل قبل حوالي أسبوعين لا يوجد اقبال على التسجيل، ولم يتعدى التسجيل نسبة 3 %.
ملكيات خاصة ولهذا السبب لم ندفع سابقا
ووفق الأهالي؛ فإن موقف سلطة الأراضي التي تهيمن عليها حماس، من رفض الاعتراف بجزء من أراضي المندوب أنها أراضي مندوب، وكذلك تصوراتها للحلول، هي التي تدفع الناس لعدم التسجيل.
عبد الكريم الاغا عضو لجنة الدفاع عن الأراضي في خانيونس، يؤكد أن هناك الكثير من المفاهيم المغلوطة التي قدمتها سلطة الاراضي حول اراضي المندوب واراضي وضع اليد.
وقال الأغا لـ"العين الإخبارية": لدينا مستندات من ايام الانتداب البريطاني عام1917، وهذه الأرض سميت هكذا لأنها وضعت تحت تصرف الحاكم البريطاني (المعروف بالمندوب) كأمانة للمواطنين وتنقل لهم عند اتمامهم دفع الاقساط المالية المتبقية عليهم".
وأشار إلى أن نقل ملكية الأرض من المندوب او الحاكم البريطاني كان يتطلب مالا كثيرا.. وهو ما لم يكن متوفرا مع الناس قبل نحو مئة عام.. فكان المواطن يدفع قسطا محدودا ويتبقى عليه الباقي..
وأضاف أن الأرض انتقلت لنا بالتسلسل من ايام الانتداب البريطاني وبعد ذلك خلال الادارة المصرية لغزة واستمرت الآلية نفسها اذ دفع الأهالي بعض الاقساط وتبقت بعضها ولدينا مستندات رسمية تؤكد ان الاراضي ملك للمواطنين.
وقال: "هذا يؤكد تسلسل نقل الملكية.. حتى ايام الاحتلال الاسرائيلي لم يقترب الاحتلال من تلك الاراضي .. حيث اقام الاحتلال مستوطناته على اراضي الحكومة ولم يقترب من المندوب".
وأضاف "ثم جاءت السلطة الفلسطينية عام1994 واكدت ان تلك الاراضي من حق المواطنين الذين احيوها وناضلوا للحفاظ عليها وكانت تحت تصرفهم التام طوال عقود.. ايام السلطة قدموا لنا خدمات لصالح تلك الاراضي واعطونا حرية التصرف خصوصا في اراضي وضع اليد".
وكشف أن الأهالي لم يدفعوا الأقساط المتبقية للاحتلال التزاما بقرار منظمة التحرير الفلسطينية الخاص بعدم دفع باقي الاقساط للاحتلال كي لا نساهم في دعم خزينته.
وأكد أنه قبل حوالي 20 عاما شكلت السلطة لجنة مختصة لدراسة تلك الاراضي فخلصت الى انها ليست اراض حكومية.. حتى جاءت حماس ولغت كل ذلك واعتبرت كل تلك الاراضي حكومية، واتخذت اجراءات من قبيل منع البناء في تلك الارض ومنع احداث اي تغيير على الاراضي.
مساومات مفروضة
وأشار إلى تشكيل لجنة حديثة خاضت مفاوضات مع مختلف الجهات ترتب عليها الاتفاق على حصر كل أراضي المندوب ووضع اليد هي تتركز في محافظتي خان يونس ورفح، لافتا على ان سلطة الاراضي وضعت قبل ايام ارقام قطع اراضي وقسائم لحصرها لكنها استثنت قطع وقسائم أخرى.
وقال: "نحن نرفض ذلك ونطالب ان يشمل الحصر كل قطع الاراضي موضع الخلاف".
وكشف أن سلطة الاراضي قدمت حلولا ورفضها اصحاب الاراضي تقوم على اعطائهم 18 % من قيمة الاراضي موضع الخلاف. وقال: "رفضنا اعطاء اي نسبة من الارض، وكذلك تريد سلطة الاراضي ان ندفع ما تبقى من اقساط بناء على سعر الارض اليوم وهذا امر مرفوض ونحن أبدينا استعداد لمعادلة العملة ابان الادارة المصرية ودفع ما تبقى من الاقساط بمعادلة العملات".
بعد سياسي
المستشار فريح أبو مدين، الرئيس السابق لسلطة الأراضي في السلطة الفلسطينية، حتى عام 2007، وهو أول وزير عدل فلسطيني، أكد لـ"العين الإخبارية" أن موضوع الاراضي ذا بعد سياسي أكثر منه قانوني.
وأشار إلى أن السلطة الفلسطينية كانت بدأت في السابق بمشروع لمعالجة تلك الأراضي بكل مسمياتها ومنها المندوب. وقال: "بدأنا مشروعنا من رفح ونجحنا في معالجة كثير من تلك الأراضي قبل أن يقع الانقسام ويتوقف المشروع عند حدود خان يونس التي تتركز فيها مشكلة الأراضي وتتعقد فيها الحلول أيضا".
وشدد على أن الحل يحتاج إلى قرار سياسي بعيدا عن القوانين، مؤكدا في الوقت نفسه أن الأرض ملك للناس، في حين أن حماس تتصرف فيها على أنها ملك خاص لها وهذا المفهوم يجب أن يتغير.
وما يغضب الأهالي، ان حماس سيطرت فعليا على آلاف الدونمات، ووزعتها على موظفيها، وجمعيات وجهات مرتبطة بها، اقامت عليها مشاريع ترفيهية أو خاصة، بالتمليك أو التأجير، أو التخصيص، خلافا للقانون، في حين تلاحق المواطنين على أملاهم الخاصة المتوارثة.
مصدر مسؤول في السلطة الفلسطينية، أكد لـ"العين الإخبارية": أن كل الإجراءات التي تقوم بها حماس تحت أي مسمى حكومي، هي إجراءات غير قانونية، وغير مخولة، وستعرض أصحابها للملاحقة القانونية.
واعتبر أن تخصيصات الأراضي من حماس جاءت مخالفة لأصول العمل القانوني، وحملت صبغة المنفعة الحزبية والخاصة غالبا، كما أن سعيها للتجريف والتدمير ومصادرة أملاك الناس تحت ذرائع مختلفة مرفوض، موضحا أن أي إشكالات قانونية، متعلقة بتصنيفات الأراضي يجب أن تحلها الحكومة الشرعية التي يجب أن تمكن من هذا الملف، وهو الأمر الذي رفضته حماس عند تشكيل حكومة التوافق عام 2014.