أنفاق غزة.. هل تغير بوصلة الحروب؟
أنفاق غزة تعيد تشكيل قيمة وطبيعة القتال البري، هناك حيث تتجسد معايير مختلفة للحرب تحت الأرض كوجه آخر للنزاعات السرية.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، جرّت حماس إسرائيل إلى واحدة من أسوأ حروب الأنفاق على الإطلاق حيث يتضح الآن الحجم غير المسبوق لشبكتها تحت الأرض.
ويُعتقد أن هذه الشبكة أخرت النصر الذي تعهدت به الحكومة الإسرائيلية، كما كبدها تكاليف دبلوماسية وسياسية لا يمكن تصورها على مدى 8 أشهر من الحرب.
وحرب الأنفاق الحالية لا يمكن مقارنتها إلا بالحرب العالمية الأولى، حين مات عدد لا يحصى من الجنود البريطانيين والألمان أثناء محاولتهم كشف الأنفاق وتلغيمها وحفرها، وفقا لما ذكرته مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في تقرير لها.
وأكدت المجلة أن استخدام حماس للأنفاق متقدم للغاية ويتفوق على ما هو معتاد بالنسبة للفاعلين غير الحكوميين، ويشبه إلى حد كبير الطريقة التي تستخدم بها الدول الهياكل تحت الأرض لحماية مراكز القيادة والسيطرة.
وأدى تعزيز حماس لقدراتها تحت الأرض إلى زعزعة تقييم إسرائيل لتهديدات الأنفاق حيث لم تتخيل أن تتورط في حرب بهذا الحجم، فركزت فقط على إزالة الأنفاق التي تعبر إلى داخل أراضيها.
ومن المرجح أن تحفز حرب غزة تطوير عقيدة جديدة وأساليب جديدة للتعامل مع هذا النوع الفريد من الحرب.
أنفاق مجهزة
بعدما تغلبت «حماس» على معظم عقبات الحرب تحت الأرض مثل الاتصالات وانخفاض مستويات الأكسجين، ورهاب الأماكن المغلقة وغيرها، فمن المتوقع أن يستمر هذا التكتيك في الانتشار.
وبحسب المجلة، فإن استخدام الحركة للأنفاق أعاد تعريف القيمة الاستراتيجية للسطح والمواجهات العسكرية، واستخدام الدروع البشرية.
المؤكد أن البقاء تحت الأرض لفترات طويلة ليس بالأمر الهين، فلم يصمد الأوكرانيون في أنفاق أسفل مصنع آزوفستال بماريوبول في 2020، أكثر من شهرين بسبب نفاد الطعام والمياه وغياب الترتيبات الصحية والإنترنت والتواصل مع العالم الخارجي.
وهذه أمور لم تشكل أي مشكلة لمقاتلي حماس المستمرين تحت الأرض لنحو 8 أشهر مما حطم الأرقام القياسية.
ووفق المصدر، يمكن إرجاع ذلك إلى متاهة طويلة من الأنفاق المجهزة التي تشمل أماكن للنوم، وقاعات اجتماعات، مجهزة بالتهوية والكهرباء والمراحيض والحمامات والسباكة وشبكات اتصالات بدائية، لكنها فعالة، إضافة إلى مخزون هائل من الوقود والغذاء والمياه.
وأتاح ذلك العيش والقيام بالعمليات العسكرية، كما ضمنت مرافق إنتاج الأسلحة استمرار الإمداد والتوزيع.
وتغلبت «حماس» على القيود الجيولوجية والصعوبات الهندسية والخوف، فكان لدى الحركة وقت كاف لصقل مهاراتها وتجريبها وتحسينها، فأظهرت أن سنوات من التدريب والتخطيط الدقيق يمكن أن تساعد في التغلب على العقبات.
وفي الغالب، فإن مستخدمي الأنفاق يغادرونها، لكن قادة حماس بالكاد يمكن رؤيتهم فوق الأرض، وفي أبريل/نيسان الماضي، ظهرت تقارير حول زيارة قصيرة زعيم حماس في غزة يحيى السنوار لقواته فوق الأرض.
ومن غير الواضح عدد المرات التي خرج فيها مقاتلو حماس من الأنفاق للإمداد أو التعافي، لكن الأكيد أن الحركة تمكنت من توجيه العمليات العسكرية دون انقطاع واستمرار التسلسل القيادي رغم تعطيل الضربات الإسرائيلية لأنظمة اتصالاتها.
ويشبه استخدام «حماس» للأنفاق، استخدام الدول لمخابئ دائمة مدفونة عميقا تحت الأرض لتعمل كمراكز للقيادة والسيطرة في أوقات الأزمات ولاستضافة القادة وإنتاج الأسلحة في حالات الطوارئ، وتمتلك كندا والصين وإيران وإسرائيل وروسيا والولايات المتحدة هذه الأنواع من المخابئ.
في المقابل، تستخدم الجماعات الإرهابية، أنفاقا بدائية للتغلب على تكنولوجيا المراقبة وللاختباء، ولتنفيذ هجمات مفاجئة.
وتشبه الأنفاق التي اكتشفتها إسرائيل في غزة الهياكل الموجودة تحت الأرض الموجودة في إيران وكوريا الشمالية من حيث حجمها وعمقها وطريقة بنائها فأصبح سقفها المقوس الأسمنتي سمة مميزة حيث جرى استخدام الأسمنت لبناء ممرات أنفاق أكبر.
وترى حماس أن الأنفاق استثمار استراتيجي طويل الأجل يضمن بقاء سلسلة قيادتها في الحرب، وليس مجرد تكتيك لمواجهة قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الإسرائيلية.
تقليص أهمية السطح
بطرق عديدة، شكلت الأنفاق العمليات في غزة مما أدى إلى تقويض احتمالات تحقيق نصر إسرائيلي سريع، وإبطاء وتيرة العمليات، وجعل إنقاذ الرهائن أكثر صعوبة وتعقيد البيئات العسكرية والسياسية لإسرائيل.
لكن الجانب الذي يتغاضى عنه كثيرون ويحمل عواقب وخيمة على حروب المستقبل هو تقليص أهمية السطح حيث يقوم هذا النوع الجديد من الحرب على "مستويين مختلفين".
ففي بداية الحرب، سعى الجيش الإسرائيلي إلى السيطرة على السطح لكشف أنفاق حماس والدخول إليها، لكن مع تقدم قواته أصبح السطح مجرد قناة للوصول إلى الأنفاق ولم يعد محور القتال.
وهذا لا يعني أن مقاتلي حماس لن يظهروا أبداً لأنهم أطلقوا صواريخ قاتلة مضادة للدبابات ونفذوا أنواعًا أخرى من الكمائن.
وتشير الفخاخ غير المرئية بالقرب من ممرات الأنفاق إلى وجود مقاتلي حماس لكنهم غير موجودين في الأفق، وعند اختراق الأنفاق يكون العدو قد انتقل إلى جزء مختلف من الشبكة.
وهذا النوع من الحرب قد يتكرر وبالتالي يتعين على الجيوش أن تفكر في كيفية التعامل مع الدور المتضائل للسطح عندما يتحول العدو من الاستخدام التكتيكي إلى الاستخدام الاستراتيجي تحت الأرض.
وإذا كان السطح سيظل جزءا رئيسيا من الحرب على الأقل فيما يتعلق بالوصول إلى الأنفاق كما يظل موقعا نهائيا لمعظم المواجهات، إلا أن التطورات الأخيرة تشير إلى أنه من الأفضل التعامل مع الحرب تحت الأرض كمجال منفصل وليس فرعيا من العمليات البرية.
حدود التكنولوجيا
أظهرت حرب غزة أن امتلاك إسرائيل التكنولوجيا الأكثر تقدما في العالم لمكافحة الأنفاق فشل في ردع حماس.
ونشرت إسرائيل في 2018 تقنيات الكشف والتحييد المتقدمة لمواجهة تهديد أنفاق حزب الله، كما دربت وحدات خاصة على حرب الأنفاق، وبنت مرافق تدريب تحت الأرض، وطورت أجهزة استشعار تحت الأرض -كذلك- لحماية حدودها، ورسمت خرائط الأنفاق بواسطة المسيرات.
لكن هذه التكنولوجيا لم تمنع «حماس» من استثمار الوقت والموارد البشرية في بناء الأنفاق، بل دفعت إسرائيل إلى الاعتقاد بأنها سحقت أنشطة الحركة السرية، رغم أن العكس كان صحيحا حيث ركزت تل أبيب على الجوانب التكتيكية، وتركت لحماس حرية تطوير قدراتها غير المسبوقة تحت الأرض.
وكانت «حماس» تعلم أن شبكة الأنفاق الواسعة التي تمتلكها في غزة من شأنها أن تبطئ رد إسرائيل، وتقلل من ميزتها التنافسية وتحمي قادة الحركة.
الدروع البشرية
تحتجز حماس مئات الأسرى منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي الذين قالت "فورين أفيرز" إن الحركة جلبتهم إلى الأنفاق كدروع بشرية وأن الهدف من وضعهم في الأنفاق كان تعقيد جهود الإنقاذ، وتقييد العمليات العسكرية، وتحصين الأصول العسكرية الرئيسية لحماس.
وأدى هذا إلى تعظيم الأهداف السياسية والعسكرية لحماس إلى ما هو أبعد كثيراً من هدفها المعلن المتمثل في إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
ومزق احتجاز الأسرى المجتمع الإسرائيلي، وربطت الحكومة الإسرائيلية النصر بأهداف بعيدة المنال وغير قابلة للتسوية، فمنحت حماس السلطة على طاولة المفاوضات، ودفعت حلفاء تل أبيب إلى المطالبة بتنازلات مقابل إطلاق سراح الأسرى، كما سهّلت الحرب النفسية التي تشنها الحركة.