دروس الحرب من خامنئي إلى كيم.. فارق استراتيجي يغيّر موازين «النووي»

في أعقاب حرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران يونيو/حزيران الماضي، دخل العالم مرحلة جديدة من التفكير الاستراتيجي بمسألة الانتشار النووي.
فقد بات واضحاً أن الضربات التي استهدفت البرنامج النووي الإيراني لم تكن مجرد عملية عسكرية محدودة، بل مثلت لحظة فاصلة في تاريخ السياسات النووية العالمية.
- النووي الإيراني.. طهران تواجه «آلية الزناد» بـ«رسالة الحلفاء»
- ثغرة الحراس.. كيف وصلت قنابل إسرائيل لاجتماع الأمن القومي الإيراني؟
وبالرغم من أن حجم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية النووية لا تزال محل نقاش بين وكالات الاستخبارات وخبراء الأمن، فإن المؤكد هو انهيار نهج استراتيجي اعتمدته طهران لعقود طويلة، وهو ما يعرف بـ«سياسة التحوط النووي»، وفق تحليل لـ«فورين أفيرز».
إيران بين العتبة والردع
منذ الثمانينيات، سارت إيران على نهج مختلف عن خصومها، فقد طورت معرفة تقنية متقدمة تسمح لها بالوصول إلى القنبلة النووية دون اتخاذ الخطوة النهائية.
هذه السياسة مكّنتها من البقاء عند «العتبة النووية» دون تجاوزها. كانت الفكرة بسيطة: الحفاظ على قدرة كامنة تتيح تسريع الانتقال إلى التسلح النووي إذا اقتضت الضرورة، وفي الوقت ذاته استخدام الغموض الاستراتيجي كوسيلة ردع ضد أي هجوم، بالإضافة إلى إبقاء البرنامج ورقة تفاوضية على طاولة المساومات مع الغرب.
وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحات ملحوظة في مراحل معينة. ففي عام 2015، أفضت مفاوضات طويلة إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي منحت إيران تخفيفاً كبيراً للعقوبات مقابل فرض قيود على برنامجها النووي.
لكن هذا النجاح كان قصير الأجل، إذ سرعان ما انهار الاتفاق بعد انسحاب إدارة ترامب الأولى عام 2018.
أعقب ذلك تراكم متسارع لمخزون اليورانيوم المخصب في إيران، وتزايد المخاوف من أن تتحول سياسة «التحوط» إلى اقتراب فعلي من امتلاك قنبلة.
«نهاية» الاستراتيجية الإيرانية
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض في 2025 وتصاعد التوتر الإقليمي بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، اتخذت واشنطن قراراً استراتيجياً بمساندة إسرائيل عسكرياً في ضرب منشآت إيران النووية.
واستهدفت الضربات مواقع أساسية في نطنز وفوردو وأصفهان، وألحقت أضراراً كبيرة بالبنية القيادية العسكرية الإيرانية.
هذا التطور مثّل نقطة تحول، إذ أظهر أن الرهان الإيراني على البقاء عند العتبة لم يوفر لها مظلة حماية، بل جعلها مكشوفة أمام هجوم وقائي واسع النطاق.
لقد أساءت طهران تقدير استعداد الولايات المتحدة للتدخل المباشر إلى جانب إسرائيل، وهو خطأ استراتيجي دفعها إلى مواجهة تهديد وجودي بتغيير النظام، في الوقت الذي ابتعدت فيه أكثر عن القنبلة النووية.
كوريا الشمالية.. النقيض الاستراتيجي
في المقابل، تقدم كوريا الشمالية نموذجاً مغايراً تماماً. فمنذ الستينيات، سعى آل كيم إلى تطوير برنامج نووي دون توقف عند العتبة.
وتعاملت بيونغ يانغ مع الانخراط الدبلوماسي كأداة لكسب الوقت والمماطلة، لكنها لم تتخلَّ أبداً عن أولوية التسلح. وبعد اتفاق الإطار عام 1994، الذي جرى التوصل إليه لتجميد برنامجها، واصلت كوريا الشمالية تطوير قدراتها سراً.
وعندما انهار الاتفاق في 2003، لم تتراجع بيونغ يانغ تحت وطأة العقوبات ولا تحت التهديدات الأمريكية–الكورية الجنوبية، بل مضت بثبات نحو بناء ترسانة متنوعة من الأسلحة النووية.
وبهذا، دخلت أي مفاوضات لاحقة من موقع قوة، الأمر الذي وفر لها «تأميناً نووياً» ضد أي محاولة لتغيير النظام.
اليوم، يقف كيم جونغ أون مسلحاً بترسانة متنامية وبشراكات استراتيجية مع الصين وروسيا، بينما يجد المرشد الإيراني علي خامنئي نفسه أمام برنامج مدمر ونظام ضعيف دون غطاء ردعي فعال.
دروس للعالم الساعي إلى النووي
التجربة الإيرانية أظهرت أن سياسة «التحوط النووي» غير كافية لردع القوى الكبرى. امتلاك قابلية تصنيع القنبلة لا يضاهي امتلاكها فعلياً.
بل إن هذه الاستراتيجية قد تشجع الخصوم على شن ضربات وقائية بدلاً من ردعهم. ومن هنا فإن الدول التي تفكر في امتلاك السلاح النووي قد تميل مستقبلاً إلى نهج «التسلح السريع والسري» على غرار كوريا الشمالية، بدلاً من الوقوف طويلاً عند العتبة.
التجارب السابقة تؤكد ذلك: البرنامج السوري الذي دمرته إسرائيل عام 2007، ومحاولات جنوب أفريقيا والهند وإسرائيل التي اعتمدت السرية أكثر من العلنية، كلها دلائل على أن الغموض المقرون بالسرعة قد يكون الخيار الأكثر فاعلية.
وبالتالي، قد نرى مستقبلاً دولاً مثل كوريا الجنوبية أو أوكرانيا تميل إلى تطوير قدراتها النووية بعيداً عن الأعين، حتى وإن أدى ذلك لاحقاً إلى عزلة دولية.
أزمة الدبلوماسية ومشكلة الالتزام
الحرب الأخيرة لم تُنهِ فقط استراتيجية العتبة النووية، بل عمّقت أزمة الثقة في الدبلوماسية الدولية.
فمن وجهة نظر المتشددين في إيران، أثبتت الأحداث أن الولايات المتحدة وإسرائيل لا يمكن الوثوق بهما، إذ شنتا ضربات واسعة بينما كانت طهران في خضم مفاوضات غير مباشرة.
هذا يعيد إلى الواجهة ما يسميه الباحث جيمس فيرون «مشكلة الالتزام»؛ أي أن الاتفاقات الدبلوماسية قد تكون بطبيعتها هشة بسبب غياب الثقة المتبادلة في التزام الأطراف بها.
قد يدفع ذلك خامنئي إلى التفكير في الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، على غرار كوريا الشمالية، باعتبار أن السلاح النووي هو بوليصة التأمين الوحيدة التي تحترمها القوى الكبرى.
مستقبل نظام منع الانتشار
رغم هذه التحديات، لا تزال لدى الولايات المتحدة أدوات لتثبيط الدول الطامحة للسلاح النووي عبر: تعزيز الردع الموسّع لحماية الحلفاء، والتلويح بعقوبات صارمة، والتأكيد على أن نظام منع الانتشار النووي الذي صمد 8 عقود كان ثمرة دبلوماسية مستمرة وليست مجرد مصادفة.
لكن سلوك واشنطن الأخير يهدد بتقويض هذه القواعد الراسخة، ويدفع الحلفاء والخصوم على حد سواء إلى البحث عن «تأمين نووي» خاص بهم.
وهنا تكمن المفارقة: الضربات الإسرائيلية–الأمريكية التي هدفت إلى إضعاف إيران قد تتحول إلى عامل يسرع اندفاع الآخرين نحو القنبلة، ويجعل التسلح السري والعلني أكثر جاذبية في المستقبل.
ووفق تحليل «فورين أفيرز» فقد دفعت إيران ثمناً باهظاً لترددها، بينما رسخت كوريا الشمالية موقعها كقوة نووية باقية.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTY3IA== جزيرة ام اند امز