الشركات الحكومية أو شبه الحكومية عادة ما تكون من أكثر الشركات ربحا، لكن الأمر في تركيا عكس ذلك، والسبب هو سوء الإدارة والفساد السياسي.
مشهد تمثيلي حدث حقيقة:
مواطن تركي يراجع شركة الاتصالات التركية تيليكوم في أنقرة، يقول المراجع للموظف:
- مرحبا، منذ ستة أعوام أعلنتم أن جميع أحياء أنقرة ستصل إليها شبكة فايبر أوبتك للإنترنت فائق السرعة، ونحن في الحي الذي أسكن فيه وفي شارعنا لم يصل إلينا هذا المشروع حتى الآن، نحن نعاني من مشاكل الإنترنت المستمرة، متى يصل المشروع إلى حينا؟
- يرد الموظف في برود: عليك الانتظار كثيرا!
- المواطن: كثيرا؟ إلى متى يعني؟
- الموظف: حتى يتعقل سكان الحي ويصوتون في انتخابات البلدية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، طالما بقيتم تصوتون للمعارضة فستضطرون للانتظار !!!
هذا مشهد حقيقي حصل مع أحد الأصدقاء عام 2016، وحتى الآن ما زال سكان هذا الحي، والعديد من الأحياء التي تصوت في الانتخابات للمعارضة محرومين من خدمة الإنترنت السريع في أنقرة. وهو دليل على كيفية إدارة شركة الاتصالات لخدماتها بشكل سياسي فاقع بعيد عن أي احترافية.
تركيا دولة كبيرة واقتصادها قوي، لكن حكومة العدالة والتنمية وخلال 16 عاما من حكمها، بنت نجاحها الاقتصادي على كاهل الخصخصة والقطاع الخاص الذي حملته كل مسؤولية فسادها الإداري والسياسي، واليوم جاء موعد الدفع، والمواطن هو الذي سيتحمل مسؤولية دفع كل هذه الخسائر
لكن ما يهمنا هنا هو أن نشرح قصة إفلاس شركة الاتصالات التركية تيليكوم بشكل مريع، لتكون بذلك سابقة في العالم، حيث إن شركات الاتصالات الحكومية أو شبه الحكومية عادة ما تكون من أكثر الشركات ربحا، والتي تعتمد عليها الحكومات في زيادة دخلها، لكن الأمر في تركيا عكس ذلك، والسبب هو سوء الإدارة والفساد السياسي، في حين أن الحاصل حاليا في تركيا هو رمي كل المسؤولية على شركة أوجيه لعائلة الحريري اللبنانية التي اشترت 55% من أسهم شركة الاتصالات عام 2006 في أضخم عملية خصخصة قام بها حزب العدالة والتنمية، وتفاخر بأنها تمثل نجاحا باهرا لسياساته الاقتصادية. حتى باتت القصة أشبه بمقولة "قميص عثمان" الشهيرة، التي أصبحت مثلا لإلقاء اللوم على الغير والقول بحق يراد به باطل.
بدأت القصة عام 2006 عندما كسبت شركة أوجيه مزايدة شراء 55% من أسهم شركة تيليكوم التركية في أكبر عملية خصخصة قامت بها الحكومة التركية، وبمبلغ 6.5 مليار دولار، مقابل استخدام 55% من أسهم الشركة حتى عام 2026، حيث يفترض أن تعيد الشركة أسهمها للحكومة التركية بعدها.
دفع الحريري المبلغ كاملا، وأنقذ حينها الحكومة التركية من أزمة سيولة كبيرة، وحققت الشركة أرباحا في العامين الأولين، لكن الأمور تغيرت بعد ذلك، إذ بدأت على الفور التدخلات الحكومية في إدارة الشركة، بحجة أنها تملك 45% من الأسهم، ولها في مجلس الإدارة أربعة أشخاص يجب الحصول على تواقيعهم وموافقتهم على القرارات الكبيرة والمؤثرة. هؤلاء الأشخاص هم من المقربين للرئيس رجب طيب أردوغان، عصمت يلماز وزير الدفاع السابق، إفكان آلا وزير الداخلية السابق، ويغيت بولوط مستشار الرئيس أردوغان للشؤون الاقتصادية، وفؤاد أوكطاي الذي عين منذ شهرين نائبا لرئيس الجمهورية.
بعد ذلك بدأت تعيينات المقربين من الحزب الحاكم في مفاصل الشركة بشكل كبير، كما ألزمت الشركة بدعم وسائل الإعلام المقربة من الحكومة بدعايات باذخة وأموال طائلة، باختصار تحولت الشركة إلى "مزرعة" للحزب الحاكم يجني منها الأموال لتمويل إعلامه، ويكافئ المقربين منه بوظائف فيها بمرتبات خيالية.
أفسدت هذه التعيينات إدارة الشركة، وبدأت أرباحها بالتراجع بشكل كبير، ومع ذلك تم الضغط عليها من أجل دفع "أرباح" للمستثمرين، بعد أن باعت الحكومة نحو 40% من أسهمها للبورصة، من أجل الظهور في صورة الشركة الناجحة أمام الناخبين. ومع هذه الخسائر وحاجة الشركة إلى تأمين أموال من أجل توسيع شبكتها وخدماتها، اضطرت الشركة للاستدانة من البنوك مبلغ 4.5 مليار دولار عام 2013، وتم وضع الشركة تحت الرهن البنكي كضمان لرد الدين، ورغم اعتراض المحكمة الإدارية على هذه الخطوة، فإن الحكومة تدخلت مع البنوك الحكومية، وتجاوزت قرار المحكمة وتم الحصول على الديون. لكن هذا الأمر لم ينقذ الشركة العملاقة التي أعلنت عن خسائل بقيمة 750 مليون دولار عام 2016، وتعثرت في دفع أقساط الدين الذي اقترضته. وبدأت البنوك تدق باب الشركة مطالبة بديونها وفوائدها، لكن الحكومة تدخلت مجددا وضغطت على البنوك لتأجيل مطالباتها، لكن الأمر زاد تفاقما وخطرا، وقررت البنوك وضع يدها على الشركة، وتدخلت الحكومة مجددا لتأخير هذه الخطوة إلى ما بعد الانتخابات الأخيرة في يونيو الماضي. والآن باتت الشركة مدينة بمبلغ يزيد على 17 مليار ليرة تركية، وخرجت شركة الحريري أوجيه من الصفقة قبل أن تنهي العقد المستمر حتى عام 2026، وتبحث البنوك التركية عن مستثمر جديد يكمل السنوات المتبقية ويشغل الشركة كي يسدد الديون التي عليها، لكن دون فائدة، فلا يوجد مستثمر يريد أن يغامر بتحمل كل هذه الديون، لاستحالة دفعها والتربح خلال فترة 8 سنوات المتبقية، خصوصا وأن الجميع يعرف مدى تدخل الحكومة في إدارة الشركة، وأن السبب الرئيسي في خسارتها كانت هذه التدخلات غير المهنية.
والآن وللتغطية على أسباب إفلاس هذه الشركة الحقيقية، انطلقت موجة إعلامية تتهم الحريري بإفلاسها، وأن شركة أوجيه قد حصلت على أموال طائلة من توزيع الأرباح في السنوات الأولى، لكن الأرقام تقول بأن مجموع ما حصلت عليه أوجيه من أرباح يكاد يصل مبلغ 6.5 مليار دولار التي دفعتها لشراء 55% من الأسهم عام 2006، أي أن شركة أوجيه، قد فهمت اللعبة متأخرا، وأدركت أنه تم استخدامها كحصان طرواده من أجل تحويل شركة الاتصالات إلى "مزرعة منتجة" لمصلحة الحكومة والمقربين منها.
فكل القرارات المهمة وقرارات الاستدانة تمت بموافقة وتوقيع أعضاء مجلس الإدارة، بمن فيهم المعينون من طرف الحكومة، كما أن هيئة الرقابة على البنوك والمؤسسات الاقتصادية كانت تتابع سير أعمال الشركة طوال تلك الفترة، ورغم تحذيرات المعارضة والخبراء الاقتصاديين المحايدين، فإن هذه الهيئة لم تحرك ساكنا بضغط من الحكومة، وسكتت على كل هذه الإجراءات، ومن هنا فإن الواقع والنتيجة تقول بأن الحريري الذي فهم اللعبة، حاول تحصيل أمواله قبل أن يغرق في الديون، وترك الشركة لأصحابها الحقيقيين يديرونها كما شاءوا وانسحب بأقل الخسائر، فالمستثمر لا يتوقع أن يدخل في مشروع بمليارات الدولارات لأكثر من عشرة أعوام دون أن يخرج بأي ربح، وأن يكون ربحه الوحيد هو إنقاذ رأس المال الذي دفعه في بداية المشروع.
والحاصل اليوم هو أن البنوك الحكومية التركية ستتحمل كل هذه الخسارة والديون، وستضطر وزارة الخزانة التركية إلى دفع تلك الديون للبنوك حتى تحول دون إفلاسها، إذ إن القانون التركي يقول بأن الخزانة تضمن دفع الديون الكبيرة للبنوك في حال إفلاس الشركات التركية. وعليه فإن مبلغ 17 مليار ليرة الديون المتراكمة، سيتحملها المواطن التركي على شكل ضرائب جديدة، فيما ستستمر الحكومة بإدارة هذه الشركة كأمر واقع دون حسيب أو رقيب.
هذه القصة المؤلمة، هي مثال لقصص عديدة مشابهة حدثت وتحدث في تركيا، تماما كما يحدث اليوم في أزمة الليرة التركية الناتجة عن ديون القطاع الخاص الذي تحمل تنفيذ مشاريع ضخمة كان من المفترض أن تنفذها الحكومة، ففساد الإدارة والمحسوبية أدت إلى فشل تلك المشاريع وتراكم الديون، التي ستحصلها البنوك من وزارة الخزانة، وتتحول إلى دين عام على كاهل المواطن التركي، فيما يتم إلقاء اللوم على القطاع الخاص وخروج الحكومة بريئة من هذه الخسارة أمام الناخب.
تركيا دولة كبيرة واقتصادها قوي، لكن حكومة العدالة والتنمية وخلال 16 عاما من حكمها، بنت نجاحها الاقتصادي على كاهل الخصخصة والقطاع الخاص الذي حملته كل مسؤولية فسادها الإداري والسياسي، واليوم جاء موعد الدفع، والمواطن هو الذي سيتحمل مسؤولية دفع كل هذه الخسائر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة