كان سقراط فيلسوف أثينا العظيم جالساً يُحدّث تلاميذه عندما وقف بمقربة منهم رجل يلبس أفخر الثياب ويتأنّق بأجمل المجوهرات وقد زَمّ شفتيه تعالياً على ما يراه ومَن يراه، فالتفت له سقراط وقال له جُملته الشهيرة عن مقر قيمة الإنسان الحقيقية: «يا هذا، تحدّث حتى أر
كان سقراط فيلسوف أثينا العظيم جالساً يُحدّث تلاميذه عندما وقف بمقربة منهم رجل يلبس أفخر الثياب ويتأنّق بأجمل المجوهرات وقد زَمّ شفتيه تعالياً على ما يراه ومَن يراه، فالتفت له سقراط وقال له جُملته الشهيرة عن مقر قيمة الإنسان الحقيقية: «يا هذا، تحدّث حتى أراك»!
أكاد أجزم أنّ سقراط لو عاد في أزماننا هذه لغيَّر جُملته بعد أن أصبح البشر أساتذة في الحديث، وتُعقد الندوات والدورات الخاصة العامة وتُطبع آلاف الكتب ونشأت معها الأندية والمؤسسات التي لا همّ لها سوى تعليم الناس فنون الحديث وطُرق الارتجال ومعرفة التعابير التي تؤثر على تفاعل الناس مع المتحدث، وأُردِف معها علم أو فن إتقان و قراءة حركات الجسد حتى يمكن التأثير لأقصى درجة ممكنة في المتلقي، لو عاد سقراط لقال حتى لا يختلط الحق بالباطل: «أنْجِزْ حتى أراك»!
لا أسهل من الحديث ولا يسر من ادّعاء البطولات، فالتنظير سهل، والخُطَب المنمّقة لا تصعب على أحد والأحلام الوردية يكثر بائعوها، لكن الأُمم لا يبنيها الثرثارون ولا يرفع رايتها المنظّرون ولا يشق لها طُرُق المستحيل الـمُدّعون، هو تحد لا يستأصل شأفته إلا رجال الأفعال لا الأقوال، وطريق طويل لا يقدر عليه سوى الصابرين على السير الحثيث لا مالئي المجالس والصحف بالـ«هذرة» ومنمّق الحديث، هم أولئك الذين تتحدّث عنهم آثارهم لا أفواههم، وتشهد لهم المنجزات العظيمة لا الطنطنات التي لا ترفع قَشّة.
الإمارات دولة تبحث عن الحلول لا تُكثر الشكوى ولا تجيد التباكي على قساوة الظروف
إنّ بيّاعي الحكي كثيرون وسيبقون دوماً هم الكثرة، لأنّ ما يفعلونه يستطيع أن يفعله الجميع وأولهم الفاشلون، ليس للحديث عنان ولا لبطولات الكلام من سقف، وهم أنواع: منهم من يعرف أنه «رغّاي» لا أكثر، لكن الوضع لا الجمهور فقط «عاوز كده»، ومنهم من يظن فعلاً أن يقوم بشيء عظيم وكأنه لا يرى أن ما بين يديه من فضاء إنجازات ينعق فيه البوم وتعشعش في نواحيه العنكبوت.
إن بياعي الحكي يُخمِدون طاقة العمل عند الآخرين ببيعهم تلك الأحلام الوهمية، ويهدرون أوقاتاً ثمينة كان من المفترض أن توجّه للعمل وخلق الفارق ويرسخون ثقافة مؤسسية سيئة قائمة على إطلاق الوعود ورفع سقف التوقعات وتجاهل التخطيط الحقيقي وغياب أي مقياس فعلي لتحديد الفجوة المعرفية Knowledge Gap والفجوة الاستراتيجية Strategic Gap في المؤسسة التي يتولون إدارتها.
على النقيض تماماً فإن خالقي الفارق لا يتحدثون كثيراً، فحديث أفعالهم وصوت إنجازاتهم له دوي هائل يغنيهم عن صف الكلمات وتنميق العبارات، وإنْ تحدثوا كان ذلك لبث الحماس في الآخرين، والتأكيد على أتْباعهم بأنهم سائرون أمامهم لتنفيذ كل ما ينادون به وليس كأولئك الذين لا يُفارقون مكاتبهم الوثيرة ولا يعلمون، فعلاً، ما يجري خارج أبوابها الموصدة.
عندما يملأ المتشدقون الصحف وفضاءات الإعلام بخطاباتهم، فإنّ خالقي الفارق يكونون قد قطعوا شطراً طويلاً من طريق المجد، الذي لا يقبلون التوقف فيه، فترى «بو راشد» و«بو خالد»، حفظهما الله، يطوّعان المستحيل ويترجمان فعلاً على الأرض العربية ما لم يكن يحلم العرب بإمكانية تحقيقه ويكذّبان بِبُعد نظرتهما وألمعية فكرهما ويقينهما الذي لا يهتز كل تلك الرسائل النفسية الانهزامية، التي طغت على أدبيات العرب طيلة القرون الأخيرة، ويُقدّمان للعالم كيف أن بإمكان العرب أن يكون لحضورهم شأن عظيم كونه منتجاً حضارياً بعد أن مَلَّ العالم من خطابيات بقيّة العرب!
من يصنع التاريخ هم أمثال بو راشد وبو خالد، وفقهما الله، لا أبطال الخطب والكلمات المعلّبة
عندما «يهذرب» البقية كانا يضعان حجر الأساس لمشروع المريخ 2117 لارتياد واستيطان الكوكب الأحمر ويدشنان «خطّة أجيال» لبناء قدرات وكوادر وطنية متخصصة في مجالات الفضاء والأبحاث والذكاء الاصطناعي والروبوتات والتقنيات المتقدمة، بعد أن قطعت وكالة الفضاء الإماراتية شوطاً كبيراً في بناء أول مسبار فضائي عربي سيغزو المريخ بسواعد إماراتية.
وعندما يزمّ الفلاسفة شفاههم في ادّعاء أجوف للمعرفة كانا يُسطّران للإنجاز ملاحم «لَفّتْ» عُنُق الدنيا حتى كاد أن ينكسر، لم تبدأ بالسعديات عاصمة ثقافة العالم القادمة ولن تتوقف عند مفاعلات براكة النووية في محيط ما زال كثير من جهاته لم تصلها «لمبّة» كهربائية ولا تعرف عن الانشطار النووي إلا ما تعرف عن «تنقّيع الشِلّق»، تنظر يميناً فترى أول جزر صناعية يتسابق عليها كبار مستثمري العالم وأعلى برج في الدنيا وتحيط به منطقة هي الأغلى حتى من برودواي نيويورك لروعتها واكتمال مرافقها ولمعان مستقبلها.
وتلتفت يساراً لترى دولةُ تبحث عن الحلول لا تُكثر الشكوى ولا تجيد التباكي على قساوة الظروف، عندما كَثُرَت استفزازات جارة السوء ايران في منطقة هرمز كانت الإمارات تعلن افتتاح خط حبشان، الذي ينقل معظم نفطها من ميناء الفجيرة وبطول يصل إلى 400 كيلو متر.
وعندما لم تزدد منطقتها الإقليمية إلا توتراً ركزت على تطوير صناعاتها الحربية والتي كانت حديث الساعة في معرض آيدكس الأخير لاقتحامها مجال صناعة البوارج البحرية والمدرعات المتفوّقة وآليات التدخل السريع.
وعندما أرادت بناء طاقة مستدامة للمستقبل في ظل نضوب لا بد منه للنفط كانت «مصدر» تنشئ مشاريع الطاقة الشمسية والنظيفة داخل الديار وفي أراضي الأوروبيين والأميركيين، هي معلومة تحرق قلوب البعض الناقم دوماً من الحزبيين و«المتغرّبين» هوى لا فِكراً!
من يصنع التاريخ هم أمثال بو راشد وبو خالد وفقهما الله، لا أبطال الخطب والكلمات المعلّبة، وبهم من أهل الأفعال يُقرّب العرب الشُقّة مع دول النخبة، فرجال المجد والإنجازات يَدَعون الأصوات لأفعالهم الفذّة ويتركون الدويّ لمآثرهم وآثارهم التي تقف لها الأيام والأنام إجلالاً وتقديراً، هم ملء البصر وملء السمع وهم فرسان الرهان، هم فقط من نراهم لا من يتحدثون، قل لصاحبك وأمثاله «أنجز حتى أراك» يا سقراط ولا تتحدّث، فحتى «شيباننا» أُثِرَ عنهم مثل ذلك عندما قالوا: «اللي تِفِحّ ما تلدغ»!
*نقلاً عن " البيان "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة