بمنظومة شعرية إغريقية قديمة.
تقول: "الثعلب يريد أشياء كثيرة.. لكن القنفذ يريد شيئاً واحداً كبيراً.. للثعلب أهداف كثيرة.. وللقنفذ هدف واحد يصر على تحقيقه".. بهذه الصورة وصف المؤرخ الأمريكي "نيل فيرجسون" الصراع الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، فبرأيه أن القنفذ الصيني يسعى لتحقيق هدف واحد منذ عام 1949؛ هو استعادة جزيرة تايوان، أما الثعلب الأمريكي فلديه حزمة كبيرة من الأهداف التي تدفعه للصدام مع بكين تارة، وتجبره على التوافق معها تارة أخرى، تتخبط المواقف الأمريكية على هذا المنوال منذ سبعين عاما ونَيّف، وبات موقفها تجاه قضية تايوان مع الصين عائماً على بحر من الغموض.
في مقال كتبه "فيرجسون" لوكالة بلومبيرج، قال فيه: "إذا خسرت أمريكا معركة تايوان فسيكون ذلك نهاية الإمبراطورية الأمريكية"، وشبّه الوضع القائم في ذاك الطرف من العالم بحال قناة السويس المصرية بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، حينما أممها الرئيس المصري جمال عبدالناصر، فشكّلت بريطانيا العظمى على أثر ذلك، آنذاك، تحالفاً ضم إلى جانبها فرنسا وإسرائيل، هاجمت به جمهورية مصر العربية بغية استعادة القناة بالقوة، لكن الاتحاد السوفيتي رفض العدوان ووجه إنذاراً للتحالف الثلاثي، ومن جانبها هددت الولايات المتحدة أصدقاء الأمس "بريطانيا وحلفاءها" بعقوبات قاسية إن لم تتراجع عن فكرة الاستيلاء على القناة بالقوة، لتذعن الدول الثلاث لتهديدات أكبر قوتين في العالم، في حادثة اعتبرها المؤرخون آخر مؤشرات انهيار إمبراطورية بريطانيا العظمى التي لم تغب عنها الشمس لعدة قرون.
يعتقد "فيرجسون" بأن خسارة الولايات المتحدة الأمريكية جزيرة تايوان لصالح الصينيين ستكون مؤشراً لانهيار الإمبراطورية الأمريكية، واختتم مقاله في مقولة "من يأخذ تايوان يحكم العالم".
هل كلام فيرجسون كلام دقيق أم فيه مبالغة؟ هل صحيح أن من يحكم تايوان يحكم العالم؟ وهل حقا تايوان بهذه الأهمية في حسم الصراع على صدارة العالم في موازين القوى الدولية؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة.. لا بد لنا من التعريف بتايوان، تلك الجزيرة الصغيرة الواقعة على كتف المحيط الهادئ، بمساحة ٣٦ ألف كم مربع، لا يتجاوز تعدادها السكاني ٢٤ مليون نسمة، لم تنسلخ عن كونها جزءا من الإمبراطورية الصينية لقرون خلت.
ما حدث أنه، ومع نهاية الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥ اشتعلت حرب أهلية داخل الصين بين التيارين الأساسيين آنذاك، هما القوميون والشيوعيون، واستمر الصراع بينهما على مدار ثلاث سنوات من ١٩٤٦-١٩٤٩، توقف عند هزيمة القوميين وفرارهم إلى تايوان؛ حيث أقاموا جمهورية الصين واتخذوا من "تايبه" عاصمة لهم ولكل الصينيين في العالم.
وعلى الشاطئ المقابل أو ما يسمى بـ"البر الصيني" أقام الشيوعيون جمهورية الصين الشعبية، واتخذوا من بكين عاصمة لها وممثلة لكل الصينيين في العالم، بما في ذلك الصينيين في تايوان.
وجد العالم نفسه حينها أمام حكومتين صينيتين تدعيان أنهما الممثل الشرعي والأوحد للشعب الصيني، وكان العالم في ذاك الوقت يعيش تبعات الحرب العالمية الثانية، التي أدخلته في إرهاصات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الرأسمالية من جهة ودول الاتحاد السوفياتي وحلفائه من جهة أخرى، فكان من البديهي أن تعترف أمريكا وحلفاؤها بشرعية حكومة تايوان، ويعترف الاتحاد السوفيتي بحكومة بكين، ولأن النفوذ الغربي كان أقوى رجحت كفة تايوان باعتبارها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الصيني، سواءً في الجزيرة أو البر الصيني "الصين الحالية"، وعليه منحت تايوان مقعداً في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهنا تكمن بداية الخلافات ما بين الصين وأمريكا.
توقفت طموحات تايوان عند هذا الحد، فقرر القوميون الحفاظ على وجودهم في تايوان وترك البر الصيني للشيوعيين، ليس تواضعاً منهم، بل لقلة الحيلة، أما الشيوعيون فأصروا على استعادة تايوان ووضعوا هذا نصب أعينهم، هدفاً لم يتخلوا عن تحقيقه حتى يومنا هذا.
في مقالته، اختزل فيرجسون صراع قطبي العالم على تايوان بعقد مقارنة بين حادثتين؛ الأولى المقابلة السرية التي أجريت في يوليو سنة ١٩٧١ بين وزير الخارجية الأمريكية الأسبق "هنري كيسنجر" ورئيس الوزراء الصيني حينها "شو أونالاي"، أما الثانية فتلك التي عقدت العام الماضي ٢٠٢٠ ما بين وزير خارجية إدارة "ترامب" مايك بومبيو وممثل الشؤون الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني.
في مقابلة كسينجر-أونلاي طرح كيسنجر ست قضايا على طاولة الحوار، طالب فيها الصين بالتعاون معها لحلها، من بينها فيتنام وانفصال بنجلاديش عن باكستان والخلاف مع الاتحاد السوفييتي.. وغيرها، وفي المقابل لم يطرح "أونلاي" إلا قضية واحدة هي ضرورة تبني الغرب سياسة "الصين الواحدة"، وعاصمتها بكين، وطرد تايوان من مجلس الأمن ومن منظمة الأمم المتحدة وتجاهلها في المحافل الدولية لتحل بكين مكانها، وكلما ذكر كيسنجر قضية من قضاياه الست كرر له أونلاي مطلبه الوحيد.. "تايوان"، وخرج الطرفان متفقين على التعاون في حل تلك القضايا.
في عام ٢٠٢٠ الماضي حينما التقى بومبيو ممثل الحزب الشيوعي، تكرر الموقف بمطالبة الصين بتبني سياسة "الصين الواحدة" والتوقف عن دعم تايوان، وعلى الرغم من أن هذا المطلب تحقق بعد اجتماع يوليو ١٩٧١، حينما اعترفت الولايات المتحدة بـ"الصين الواحدة" وتسلمت الصين على أثره مكان تايوان في مجلس الأمن والأمم المتحدة، كما قلصت أمريكا من وجودها العسكري على الجزيرة، إلا أن الكونجرس الأمريكي جاء في عام ١٩٧٩ ليقرَّ قانون "العلاقة مع تايوان" الذي يمكن تلخيص نصوصه في: "أن الحكومة الأمريكية حنثت بوعودها لتايوان في الماضي، وعليه تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بالحفاظ على الوضع الحالي لتايوان المنفصلة عن الصين، والدفاع عنها وتزويدها بالأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسها، وبالتدخل عسكرياً في حال سعت الصين إلى تغيير الوضع القائم بطرق غير سلمية".
أمريكا ترى تايوان حاملة طائرات لا يمكن إغراقها
إن أهمية تايوان بالنسبة للصين بديهية من المنظور الجيوسياسي، فهي "جغرافياً" جزء من الصين تريد استعادته، وهذه حيثية لا تجادلها فيها واحدة من دول العالم، أما سياسياً فعلى مر التاريخ اتخذ أعداء الصين من الجزيرة قاعدة عسكرية لمهاجمتها، بدءاً من الأسر الصينية القديمة المتصارعة، وصولاً إلى الهجوم الياباني إبان الحرب العالمية الثانية.
اليوم، يحارب القوميون في تايوان الصين اقتصادياً ودبلوماسياً، ومن حين لآخر تنشب اشتباكات عسكرية في عرض البحر بين الطرفين، فالجزيرة تربط بحر الصين الجنوبي ببحرها الشرقي وتتحكم بمضيق تايوان، الذي تعبره التجارة العالمية من نفط وغاز إلى مختلف أنواع البضائع من وإلى اليابان.
من الأهداف السياسية التي تسعى الصين لتحقيقها من خلال استعادة تايوان خنق الجيوب الرأسمالية في ذلك الجزء من العالم المتمثلة بكوريا الجنوبية واليابان، إضافة إلى فرض ضغوط على الولايات المتحدة لخفض وجودها العسكري هناك، وصولاً لاعتبارها ورقة مساومة لحسم مشاكلها الحدودية مع الكثير من الدول المحيطة بها كالهند مثلاً.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فترى في تايوان "حاملة طائرات التي لا يمكن إغراقها"، ومقبض ثابت تحافظ من خلال التمسّك به على نفوذها في الطرف الشرقي من الأرض.
يختلف الباحثون بالملف الصيني في موعد تحقيق القنفذ الصيني لهدفه الوحيد، ففي فبراير الماضي صرح قائد القوات الهندية بأن ذلك لن يتحقق قبل عام 2027، فيما تفيد دراسات معهد هوفر بأن تحقيقه سيتم في عام ٢٠٢٥، ودراسات أخرى تعطي مواعيد أخرى، ولكنهم اتفقوا جميعا على حتمية حسم هذا الملف لصالح القنفذ الصيني.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة