السياسة في جوهرها العميق قرار يُفَعِّلُ الموارد والإمكانيات ويوجهها وجهة معينة.
فالدول لا تُقاس قوتها وضعفها بمجرد عملية حسابية لما تملكه من موارد اقتصادية نقدية أو طبيعية أو صناعية، ولا بما تملكه من أسلحة ومعدات فقط، لأن كل ذلك لا يقدم إلا مقدار القوة الكامنة أو المتاحة أو الممكنة، ولكن القوة الحقيقية هي عملية حسابية أخرى تتم من خلال ضرب كل ما سبق في الإرادة السياسية لصانع القرار.
لذلك نجد أن الدول يختلف دورها الإقليمي، وحضورها الدولي وقوتها الخشنة أو الناعمة من فترة حكم إلى أخرى، ومن قيادة إلى أخرى، وذلك طبقاً لرؤية صانع القرار لموقع ودور دولته، وهذا يتوقف بدوره على التكوين الشخصي لصناع القرار وخصائصهم النفسية، ومدى رغبتهم في الاختيار بين التحدي والمواجهة، أو السكون وإيثار السلامة والهدوء.
وقديماً يخبرنا الشعر العربي بذلك الاختيار الدقيق بين الإرادة في مواجهة التحديات التي تعطي للدولة حضورها وقوتها، وبين التمتع بالإمكانيات والابتعاد عن المخاطر وإيثار السلامة. فحين هجا الشاعر الشهير الذي عاش في الجاهلية والإسلام "الحطيئة"، أحد شيوخ قبائل العرب اسمه "الزبرقان بن بدر" ببيت من الشعر، قال فيه "دع المكارم لا ترحل لبغيتها... واقعد فأنت الطاعم الكاسي"، شكاه إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال له هذا ليس هجاء، فرد ابن بدر قائلاً: "يا أمير المؤمنين فما تبلغ من رجولتي ومروءتي أن آكل وألبس فقط". هنا كانت الإمكانيات بدون إرادة تواجه التحديات والمخاطر تمثل انتقاصاً من مروءة العربي الأصيل؛ على الرغم من أنه ثري ويملك الموارد، ويستطيع التمتع بالحياة بكل ما تقدمه في سلامة وهدوء.
وإذا نزلنا بهذه الفكرة إلى الواقع السياسي سنجد أن إمكانيات دولة مثل جمهورية مصر العربية ومواردها لم يطرأ عليها تغيير يذكر خلال العقود الثلاثة الأخيرة منذ عملية تحرير الكويت عام 1991 إلى اليوم، بل على العكس فقد تضاعف عدد السكان تقريباً خلال الثلاثين سنة الماضية، فالموارد والإمكانيات قد لا تكون شهدت تحولات كبرى بالنقص أو الزيادة، ولكن الإرادة السياسية شهدت تلك التحولات من حيث إيثار السلامة والهدوء والتمتع بالمتاح من المتاع، أو السعي للحضور الفاعل المؤثر دون التضحية بالسلامة والهدوء والحلم بحياة أكثر رفاهية.
فمنذ محاولة اغتيال الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، رحمة الله عليه، في أديس أبابا عام 1995، دخلت مصر في حالة من البيات الشتوي، أو السكون على المستوى الإقليمي، وأصبحت أقل انخراطاً في التفاعلات السياسية في الإقليم والعالم، بحيث حافظت على نمط روتيني من العلاقات مع دول عربية مختارة، وتراجع الحضور الأفريقي، وتجمّد الحضور الدولي عند الأصدقاء التقليديين في أوروبا وأمريكا، وبعد ذلك بأقل من عشر سنوات حدث تحول كبير في الوضع الداخلي مع صعود تيار التوريث السياسي، وتغيير هيكلية الحزب الحاكم، وانتقل الجمود والسكون والركون من المستوى الدولي إلى المستوى الداخلي، بحيث أصبح الإنجاز والتطوير يعتمد على مهارات وقدرات كل وزير على حدة، فهناك وزراء أبدعوا وطوروا، وآخرون حافظوا على الوضع القائم وجمّدوا قطاعاتهم حتى انفجر الشعب في وجه الجميع عام 2011، وكان نتيجة هذا الانفجار كارثة على الدولة والمجتمع أُهدرت فيها الموارد والإمكانيات، وانقسم الشعب، وتفتت قواه الفاعلة، وتراجعت أدوار مؤسسات كثيرة، ودخلت الدولة في مرحلة معقدة من إعادة تركيب ما تفكك، وتجميع ما تفرق، ولملمة شتات المجتمع.
وكان عام 2020 بداية عودة مصر إلى ما قبل 1995، بل إلى ما قبل ذلك بكثير، وكانت العودة مخططة بصورة متقنة ومنسقة منذ بداية ترتيب الأوضاع في شرق المتوسط، وتنويع مصادر التسلح، والانفتاح على العديد من الشركاء الاقتصاديين الجدد في أوروبا وروسيا والصين، والتحرك بتؤدة وروية في أفريقيا. وحين نضج كل ذلك، وتم تأمين الإمكانيات والموارد؛ خصوصاً العسكرية، هنا ظهرت الإرادة التي تحول تلك الإمكانيات إلى قوة حقيقية مؤثرة في المجال الحيوي، فكان الموقف من ليبيا مختصراً في أربع كلمات "سرت والجفرة خط أحمر"... هنا تراجعت جميع القوى المعادية وأعادت حساباتها وعرفت أن هناك إرادة جديدة لمصر بدأت تظهر مدعومة بحائط صلب يقف معها ويساندها متمثلاً في الإمارات والسعودية ومعهما روسيا وفرنسا.
وفي الحرب الأخيرة على فلسطين وأهلها، تحركت مصر بنفس القوة والإرادة واستطاعت أن تحقق ما تريد بصورة ظاهرة أو خفية، ولم يحدث الهجوم البري على غزة، وتم الوصول إلى هدنة، وألقت مصر بكل ثقلها دعماً لشعب فلسطين، ولدولة فلسطين دون أن تقف عند الجرائم التي ارتكبت في حق الجيش المصري في شمال سيناء انطلاقاً من غزة ذاتها.
إن المتابع للحضور المصري في الفترة الأخيرة يدرك أن هناك إرادة جديدة لمواجهة التحديات بصورة عاقلة حكيمة، تستند إلى قوة حقيقية قادرة على مواجهة مَن لا يملك العقل لفهم مفردات الحكمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة