حدث أن عرض يوماً اللبناني الراحل منصور الرحباني مسرحيته "المتنبي" على أدراج بعلبك.
وحينها اختار أبياتاً تتضمن معاني عنصرية متطرفة ضد السود، ولم يكن مدركاً لذلك، إلا أن ثلة من المثقفين انتبهوا إلى تلك الأبيات، بينما الجمهور العريض الذي شاهد المسرحية لم يعِ جوهر الشعر وهم من أبناء بيروت، مدينة الجمال والثقافة والأدب والفكر، الذين يُنظر إليهم على أنهم أكثر الشعوب وعياً نتيجة ذلك الحراك في بلدهم.
هنا الأقدار قد تكون أنقذت الرحباني من انتقادات الجماهير الواسعة، إلا أن للقدر مساراته الخاصة التي لا نفهم رسالتها في نفس الوقت إلا بعد حين.
طرأت عليّ هذه القصة بعد التصريحات اللاذعة والخالية من المسؤولية الأخلاقية لشربل وهبة، الذي شاء القدر أن يلقنه درساً بأصوات رسمية وشعبية خليجية مستنكرة لوصف استخدمه مستهزئاً، فجاءه الرد بصاعين من نشطاء وأفراد وحكومات لم تمرر هكذا عنصرية.
والدرس هنا لم يكن لشربل وحده، بل لكل خطاب كراهية ومتطرف، أو نبرات عنجهية تميل إلى تصغير الآخرين والانتقاص من قدرهم كبشر مختلفين وقيمتهم الإنسانية.
وهبة وقع فريسة تحزبه ونظرته الدونية تجاه الخليجيين، معتقداً أن لقب "بدوي" فيه نسف شأنٍ وتحقير، ولم يكن مدركاً كم يعتز ابن الصحراء وأهل الخليج عموماً بأصولهم وبداوتهم، فكما يقال الإنسان ابن بيئته.. فأخذ منها صفات الصبر والفراسة والحكمة والكرم والأصالة لتكون مكرسة في أفعال أبناء الخليج وشيوخهم، والمواقف التاريخية في نجدة المظلوم ومساعدة المحتاجين وإعمار البلدان خير دليل على تلك الأفعال التي لا تصدر إلا من نفوس مشبعة بحب الخير والإيثار العربي ومصبوغة بهوية عربية وإسلامية.
ما حدث بعد هذا التصريح لوزير خارجية لبنان من حملة شعبية واسعة اختزلت صوتها في شعار "حنا بدو"، لن تمر هكذا دون أن تكون لها أبعاد على الصور الذهنية المرسومة في ذاكرة العرب حول الخليجيين، التي تصفهم بشعوب المال والاتكالية وناكري الجميل.. وللأسف تطرأ هذه الأوصاف من أصدقاء عرب سجل الخليجيون معهم مواقف لا تُنسى في ساحات البسالة والإنسانية، ونحن مدركون كل الإدراك أنها لا تمثل شعوباً بأسرها.
حراك كهذا كفيل بتصحيح تلك الصور الذهنية المجحفة بحق دولنا وشعوبنا التي اختارت مسار التنمية والإعمار وجعل الإنسان رأسمالها طريقاً واضحاً تمضي فيه.. وكانت الدعوة من قادتنا واضحة أنه من يريد من الإخوة العرب أن يستفيد
من هذه التجربة فله ذلك وبمساعدة خليجية لا تنتظر مقابلاً في سبيل إعمار وتطوير بلدانهم، وإن كان ذلك عكس رغبتهم فلا وقت لدينا للتوقف عند محطات ودول لا تساعد نفسها واعتادت على المعونات واعتبرتها حقاً أصيلاً لها، فتحولت من دول منتجة إلى دول اتكالية ومصدرة للمليشيات الإرهابية والأيديولوجيات المدمرة.. والأهم من ذلك أنها فقدت أبناءها وعقولها التي اختارت الهجرة بعيداً عنها بحثاً عن الأمان والاستقرار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة