حدثان جرت بهما المقادير الأيام القليلة الماضية وضعا الصين في بؤرة الأحداث العالمية.
وأعادا الحديث من جديد لفكرة زعامة الصين للعالم، إن قدر لها التفوق على الولايات المتحدة الأمريكية بنوع خاص، أو تجاوز المعسكر الغربي بشكل عام على كافة الأصعدة.
المشهد الأول تمثل في الصاروخ الصيني، والذي كثر من حوله الحديث، وكيف أن بكين قد فقدت القدرة على توجيهه، ولهذا أخذ يدور حول الكرة الأرضية، على غير هدى، وهو ما درجت الألسنة على ترديده، في حين أن الذين بحثوا عميقا وجدوا تصريحات رسمية صينية تؤكد أن المهمة الرئيسية للصاروخ قد اكتملت، وأن ما سقط لم يكن سوى الحطام المنفصل بعد تمام عمله.
المشهد الثاني، اتضحت فيه قدرات الصين العلمية خارج الكرة الأرضية، وذلك من خلال هبوط مركبة صينية على سطح المريخ، الأمر الذي اعتبر من كافة الدوائر السياسية قبل العلمية خطوة كبيرة لتحقيق طموحاتها في الفضاء الخارجي.
والشاهد أن قضية الفضاء اليوم لم تعد مجرد استكشاف علمي وحسب، ذلك أن الصراع على زعامة العالم أرضا انتقل إلى الفضاء سرا وعلنا، وذلك عن طريق عسكرة الفضاء الخارجي للكرة الأرضية، وهذه قضية قائمة بذاتها، لكن ما يهمنا هنا هو القول إن الصين آخذة في التمدد برا وبحرا وجوا، وهي ساعية إلى زعامة العالم، حتى وإن لم تتناول الأمر بصورة رسمية.
تبدو العلاقة بين الزعامات القطبية والنجاحات الاقتصادية علاقة طردية، فكلما اشتد عود الأمم والشعوب اقتصاديا، ظهرت آفاق انطلاقة نحو العالم الخارجي لتعزيز تلك المصالح وخدمة الأهداف الاقتصادية وفي مقدمتها التجارة العالمية.
من هذا المنطلق، يمكننا فهم مشروعات صينية عملاقة انطلقت حول العالم من عينة طريق الحرير، وبقية مشروعات الصين للشراكة مع العالم، بدءا من أوروبا القريبة جغرافيا، مرورا بالقارة الأفريقية المليئة بالثروات الطبيعية، وصولا إلى أمريكا الجنوبية، ومن غير أن نغفل بسط هيمنتها على نطاقها الجغرافي التقليدي، أي قارة آسيا.
في عددها الأخير، طرحت مجلة فورين بوليسي الرصينة تساؤلا عميقا عن فرص الصين في زعامة العالم، والقراءة للبروفيسور الأمريكي الشهير، ستيفن والت، عالم السياسة وأستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد.
والت يرى أن الولايات المتحدة قد دخلت حقبة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى، وفي مقدمتها الصين. لكن على الرغم من ذلك تبقى فرص الصراع أو الصدام المسلح بين الدولتين ضئيلة رغم كل ما يشاع عن احتمالات حرب.
رؤية البروفيسور والت تفتح الباب أمام تساؤل مهم وعميق: "أي مجال للمنافسة على الزعامة إذن تجري به الأحداث؟".
باختصار غير مخل، هناك سباق على القدرات العسكرية، هذا جانب أساسي، وربما سنعود إليه في السطور القادمة، وهناك سباق على المعادن النادرة والتي ستشكل أساس صناعات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الطاقة الخضراء والمنتجات الطبية الحيوية.
لكن المنافسة الأكبر التي يتحدث عنها والت تقوم في أساسها على شكل النظام العالمي الذي تسعى فيه كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية إلى زعامة العالم. ما معنى هذا الحديث؟
قبل الجواب، ينبغي أن نشير إلى أمر مهم عليه يقوم التباين بين بكين وواشنطن، وإن شئت الدقة فقل بين المعسكر الغربي الأوروبي والأمريكي، وبين المعسكر الآسيوي الشرقي.
الغرب يقوم على دوائر من فكر أرسطو، أي الصراع بين الظاهرة وما هو خارج عنها، في حين أن الشرق الآسيوي يرتكز إلى كونفوشيوس وفكره، وهو يرى أن الوجود كله أنطولوجي، ومن الطبيعي أن تحدث فيه خلافات، لكن في إطار وجود عام يحتوي الأجزاء. ولهذا فإن الخلافات يمكن أن توجد وتتحرك في محيط الدائرة من غير حتمية تاريخية للصدام والخصام والمواجهة.
والت يخبرنا في جوابه عن السؤال المتقدم، محاولا تبسيط المشهد الأممي من دون الوقوع في فخ الاختزال، فيقول: "إن النظام العالمي الذي تفضله الصين هو في الأساس نظام ويستفالي (نسبة إلى صلح ويستفاليا)، أي إنه يؤكد السيادة الإقليمية وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، ويتبنى صورة لعالم يتسع للعديد من الأنظمة السياسية المختلفة، ويمنح امتيازا للاحتياجات المفترضة للجماعة البشرية، مثل الأمن الاقتصادي، ويجعل لها الأولوية قبل حقوق الفرد أو حرياته.
هل هذا هو النظام الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية؟
قبل رؤية فورين بوليسي، دعونا نذكر بأن الولايات المتحدة الأمريكية ماضية قدما في سياق تنفيذ رؤيتها الخاصة بالقرن الأمريكي، وقد وضع لبناتها المحافظون الجدد في نهاية القرن العشرين. ومفاد الأمر أن تكون لواشنطن اليد العليا، وألا يضارعها أو يشارعها أحد في الهيمنة على العالم.
من هذا المنطلق يرى والت أن الولايات المتحدة لطالما شجعت على نشوء وارتقاء نظام عالمي تفضل فيه القيم الليبرالية، القائمة على قاعدة أساسية مفادها أن جميع البشر يتمتعون بحقوق محددة لا يستطيع أحد حرمانهم منها.
على أن علامة الاستفهام الجدير بنا تأملها والوقوف أمامها: أي معسكر من المعسكرين ترجح دول العالم، وعلى هذا الأساس تكسب طرفا دون الآخر زخما كبيرا في إطار الوصول إلى العالمية؟
لا يمكن الجواب من غير تأمل مشهد جائحة كورونا، تلك التي أظهرت ضعفا كبيرا على الجانبين الصيني والأمريكي على حد سواء. كيف ذلك؟
على الجانب الصيني، استشعر العالم أن الشمولية نظام بائد، قد يقود العالم عند نقطة زمنية بعينها إلى دائرة التهلكة. وهنا يمكن للمرء أن يطيل النظر فيما قالته عالمة السياسة جيسيكا تشين فايس، من أن الصين تسعى إلى بناء نظام عالمي لا تتعرض فيه سلطة الحزب الشيوعي الصيني للخطر بسبب المطالبات العالمية باحترام الحقوق الفردية، ولا يكون هدفا لسهام النقد الموجهة لسياساته الداخلية.
ماذا على الجانب الأمريكي؟
أثبت انتشار كوفيد- 19 المستجد أن هناك نقاط ضعف عديدة وعميقة في ثوب حاضنة الرأسمالية العالمية، والتي بدت غير مستعدة طبيا لملاقاة الجائحة، الأمر الذي نجم عنه نصف مليون وفاة ونحو ثلاثين مليون إصابة، وخسائر اقتصادية تحتاج لزمن طويل لتعويضها.
يبدو إذن أنه لا الصين ولا أمريكا هما من سيحدد زعامة العالم، وإنما شعوب ودول العالم هي المنوط بها حسم الزعامة، وغالب الأمر لن نكون ثانية أمام اختيار ثنائي، فقد سئم العالم من المقاربات الحدية والاختيارات بين الأبيض والأسود فحسب.
عالمنا المعاصر مدعو إلى التعددية بكل أبعادها ومعانيها، ومن غير ضرورة للتحيز أو التحزب السياسي أو الأيديولوجيات المتنازعة التي قادت البشرية في طريق الحروب العالمية، والإنسانية مدعوة إلى رجاء التعايش السلمي وأريحية القلب الواحد من غير زعامة أمريكية أو صينية، الأمر الذي يبدو كحلم يوتوبي، لكن غالب الظن هو الطريق الوحيد للنجاة من فخاخ عالم ما بعد العولمة.. فانظر ماذا ترى؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة