الصفحة التي يسطرها السودان في هذه الحقبة الزمنية من تاريخه المعاصر.
لا تعكس عقم النظام السابق بحوامله الأيديولوجية والفردية والشعبوية فقط؛ بقدر ما تؤكد أن التحرر من ربقة الأيديولوجيا يشكل إحدى نقاط القوة المطلوبة لنهوض المجتمعات وبلورة قوى سياسية تتقن فنون السياسة وقواعدها، وتدير البلاد بعقلية السياسي لا بذهنية الانتماء المؤطر بأيديولوجيا معينة، وتحديداً عندما يحوّلها نظام ما إلى مظلة لممارساته ونهجه.
الأيديولوجيا نقيض السياسة، وخطورتها تتضح أكثر عندما توجّه أهل السياسة وتهيمن على تفكيرهم ومواقفهم، والأهم أنها نقيض الدولة الوطنية التي تقوم دعائمها على العدالة والقانون وتكافؤ الفرص ويتساوى فيها الجميع، وتُصان مصالحها من خلال علاقة جدلية بين السلطة والمواطن على أسس حقوقية. تواجه السلطة السودانية الانتقالية الجديدة تحديات داخلية وخارجية كبيرة، وهي تحث خطاها لتُصارع على جميع الجبهات لإزالة الإرث الثقيل الذي خلفه النظام السابق على الصعد الاقتصادية والسياسية والحزبية والمجتمعية في السودان، بموازاة توجهها ومسعاها العربي والإقليمي والدولي الرامي إلى تفكيك القيود السياسية والاقتصادية والأمنية التي تثقل البلاد والعباد جراء السياسات والتوجهات المضطربة والمتقلبة سابقاً.
من الملامح اللافتة التي أماطت السلطة السودانية الجديدة اللثام عنها من خلال انفتاحها وسياقات عملها ومكاشفاتها للرأي العام هو حجم الديون المتراكمة على السودان خلال العقود الأخيرة، الأمر الذي يطرح سؤالاً جوهرياً حول الأسباب الكامنة وراء تراكم ذلك الدين الهائل على الدولة الذي كبّلها وأعاق مشاريع وبرامج التنمية في بلد يوصف بأنه "قارة تسكن دولة" وهي من أكبر الدول من حيث المساحة في أفريقيا والوطن العربي، وتحتل المرتبة العاشرة بين بلدان العالم الأكبر مساحة، إذ تقدر مساحتها بـ2.5 مليون كيلومتر مربع، وتقع في المنطقة المدارية، وتتنوع الأقاليم المناخية السودانية من المناخ الصحراوي إلى المناخ الاستوائي، ولذلك كله تتمتع بتنوع الثروات الطبيعية كالبترول والنحاس والذهب واليورانيوم، إضافة إلى الموارد الكبيرة الزراعية والحيوانية والمائية، وعلاوة على اعتبارها البوابة الشمالية لوسط وجنوب القارة السمراء؛ فهي تطل على البحر الأحمر بساحل طوله يقرب من 270 كيلومتراً.
أمام هذه المعطيات الطبيعية والواقع الجغرافي المميز والأهمية الجيوسياسية للسودان؛ تتداعى الأسئلة حول الفرصة السانحة أمام الطبقة السياسية الجديدة وحول النهج المطلوب لاستثمارها ونفض الغبار المتراكم عن كاهل وطنها، وطي صفحة العبث الأيديولوجي الذي وسم فترة حكم نظام البشير، واستبدالها بفلسفة حكم سياسية قائمة على إدراك مقومات ومكامن القوة الذاتية وتقدير حدود ومصالح الآخرين، وتمكين القوى المحلية، السياسية والاقتصادية والحزبية والمجتمعية، من ولوج دائرة العمل السياسي وممارسته قولاً وعملاً وفعلاً ضمن محددات وطنية على قاعدة أولوية المصلحة العامة وتجاوز الـتأطير الأيديولوجي لإدارة الدولة، والتعاطي بواقعية مع الاحتياجات الملحة.
التركة بلا شك ثقيلة، وعبورها يستلزم التعامل بموضوعية مع جميع التحديات وفق استراتيجية محكمة على المستويات والصعد كافة، ولعل الانفتاح الملموس من قبل السلطة السياسية الحالية على المسرح الدولي عموماً، وعلى الارتباطات الداخلية بشكل خاص؛ دليل كبير على الوعي الوطني والسياسي لديهم، والنظر بأهمية تَوازي المسارين الداخلي والخارجي، وبأن تكون الأولوية لكليهما للوصول إلى إحداث التغييرات المرجوة وإعادة السودان إلى المسرح العربي والأفريقي والدولي كلاعب له خصوصيته ودوره وتأثيره.
ليس أمام الطبقة السياسية الجديدة في السودان إلا النظر إلى المستقبل والاستعداد له بعيون الحاضر وبأدواته، وهي كثيرة وغنية بصنوفها الطبيعية، جغرافياً واقتصادياً وسياسياً، والإرهاصات الأولية تشير إلى ذلك. الاستثمار الأمثل للموارد قاعدة الانطلاق الراسخة. مواجهة متطلبات الواقع الداخلي تتطلب رؤية موضوعية لا تقصي أحداً ولا تستبعد تياراً ولا تحرم مكوناً من حقوق الممارسة السياسية، ولا بد من طرح الخيار الديمقراطي بصفته معياراً لعملية التنمية الشاملة التي يحتاج إليها الشعب السوداني.
أثبتت تجارب الشعوب عبر التاريخ أن التحرر من الأيديولوجيا لا يحتاج إلى معارك ولا ميادين قتال أو ساحات مواجهة، لكنه حتماً يتطلب إرادة واعية وتمييزاً حصيفاً بين الفعل السياسي ومقتضياته الواقعية وحسابات المصالح، وبين النزوات والاستقطابات التي تعوق ممارسته وتعطل طاقة التجدد والإبداع لدى الإنسان والمجتمعات، والأهم إيمان الطبقة السياسية الحاكمة بمقومات وأسس الدولة الوطنية وسيادة القانون. في تجربة الحكم الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق الكثير من العبر، وكذا الحال في أوروبا إبان العصور الوسطى وحركة التنوير التي انطلقت أساساً لإلغاء المؤثرات الأيديولوجية وبناها السلطوية، أنّى كان مصدرها، عن دوائر الحكم والسلطة.
التجربة السودانية العتيدة تعد بتحولات جذرية، بعد أن خلخلت كثيراً من البنى التحتية البالية التي كانت متجذرة في مراكز العمل السياسي خلال فترة زمنية لا تعتبر طويلة بقياسات الانتقال السياسي من مرحلة إلى أخرى، ووضعت حداً لظاهرة الاستقطاب السياسي والحزبي داخل المجتمع السوداني وتياراته، وهي تحظى بدعم وتأييد غالبية المجتمع الدولي، ما يجعلها مؤهلة لقيادة مشروع تحديثي شامل في السودان عماده النظام الديمقراطي التعددي القائم على مبدأ المواطنة الدستورية والمساواة التامة أمام القانون، وإدارة الموارد الطبيعية واستثمارها بشكل علمي ووطني بحيث تشكل هذه الأسس الأرضية الأكثر صلابة للانطلاق نحو آفاق واعدة من الاستقرار والتنمية الداخلية من جانب، والشراكة المتوازنة مع العالم الخارجي من جانب آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة