نظرية "الخطيئة الأصلية أو The Original Sin" قامت على أن هناك أصلاً واحداً لكل الشرور التي ألمت بالعالم.
وتقول القصة إنه "عندما أغلى الشيطان آدم بأكل التفاحة من الشجرة المحرمة، فكان ذلك هو الذنب الأعظم الذي جعل الإنسان يأتي إلى الأرض من السماء، ومن وقتها كان عليه ليس أن يتعامل في جنة مع الملائكة وإنما على الأرض يتعامل مع الشياطين أيضاً". البحث في أصل المشكلات والمعضلات الإنسانية بات جزءاً من الفكر الإنساني في محاولة للوصول إلى الخلاص إذا ما تمت معرفة الخطيئة الأولى حتى لا تتكرر أولاً، وثانياً حتى يمكن الاستغفار عنها وتعويضها إذا ما كان ذلك ممكنا.
وبينما كان ذلك سابقاً يخص الإنسان، فإنه سرعان ما باتت القصة الأصلية لحديث الأمم عن نفسها وعن الآخرين؛ ولا يُستثنى في ذلك الحديث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بما فيه الحرب الرابعة الأخيرة في غزة. المعضلة الفكرية هنا هي أنه عندما تتكرر حرب لأربع مرات، فإن أموراً كثيرة تختلط عما إذا كانت لكل حرب منها خطيئتها الأصلية، أم أن هناك خطيئة أولى ينبغي أن تجب كل الخطايا الأخرى وتدفعها إلى خلفية الهموم.
هناك مدرسة متكاملة عربية تعود بالصراع العربي الإسرائيلي إلى مؤتمر بازل في عام ١٨٩٧ عندما جرى الحديث في المؤتمر اليهودي عن الدولة اليهودية. جماعة عربية أخرى تبدأ من وعد بلفور عام ١٩١٧، وجماعة ثالثة ترى الطامة جاءت مع الانتداب أو قرار التقسيم أو حدوث النكبة الأولى في حرب ١٩٤٨، التي تلتها نكبة أخرى في عام ١٩٦٧.
الإسرائيليون لهم وجهة نظر أخرى تبدأ من زمن الخروج العبراني من مصر، ومنهم من يبدأ بعد نشوء النفي من فلسطين في الأزمنة الرومانية، ومنهم من يعود بها إلى ظهور معاداة "السامية" وعندهم تعني اليهود وحدهم، ثم موجات الاضطهاد التي جرت في إسبانيا بعد سقوط الأندلس، والمحرقة الروسية حتى نصل إلى المحرقة النازية.
كل هذه القصص تستيقظ مع كل جولة جديدة من الصراع، وليست لها علاقة مباشرة مع وجود سلطة وطنية فلسطينية اعترفت بها إسرائيل والدول العربية بأنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والعالم باعتبارها عضواً مراقباً في الأمم المتحدة. وليست لها علاقة مباشرة بأن إسرائيل دولة في الشرق الأوسط وعضو في الأمم المتحدة، ولها علاقات سلام مع 6 دول عربية، فضلاً عن علاقات دبلوماسية مع أكثر من ١٠٠ دولة في العالم. وفي الجولة الأخيرة التي نشبت في شهر رمضان لم يكن تاريخ الخطيئة الأولى هو نقطة البداية وإنما جغرافية القدس هي المعضلة الكبيرة. في هذه النقطة المعقدة توجد تركيبة من المقدسات الحية على هضبة يوجد عليها للمسلمين المسجد الأقصى الذي صلى فيه الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) في ليلة الإسراء والمعراج، وإذا صعدت فيه إلى أعلى من خلال طريق الآلام الذي سار فيه السيد المسيح عليه السلام تصل إلى كنيسة القيامة، وإذا نزلت من الهضبة فأنت بجوار حائط المبكى المقدس لليهود.
هذا المركب الذي يهفو إليه أنصار الديانات السماوية الثلاث تحول إلى نقطة اشتعال لا تتوقف في حالات الدخول والخروج لأي منهم وقيامه بواجباته المقدسة. وربما لا يوجد كيان آخر في العالم، سريع الاشتعال إلى حرب شاملة مثل هذه المنطقة.
ولأن كل اشتعال يحتاج إلى مستصغر للشرر يشعل - ناراً - تاريخاً حاراً بالنزاع والصدام فإن سلوكاً إسرائيلياً بدأ بحكم من المحكمة العليا الإسرائيلية لمجموعة من اليهود بالأحقية في مساكن بحي الشيخ جراح خرجوا منها بعد حرب ١٩٤٨. وإذا وضعنا جانباً أنه لا يوجد حق قانوني دولي للمحكمة في أرض محتلة؛ فإن إسرائيل لا يمكنها تطبيق هذا الحكم إلا إذا كانت مستعدة لعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى مساكنهم التي فقدوها في نفس الحرب.
كان دفاع سكان الحي المقدسي عن حرمات منازلهم سبباً في الصدام الذي أسس للخطيئة التي نشبت بعدها الحرب الرابعة. ولكن الخطايا لا يتم حسابها، ولا تشعل النيران إلا إذا تبنتها عناصر متطرفة. وفي الثمانينيات من القرن الماضي، اعتُبرت أيديولوجية الحاخام "مائير كاهانا" العنيفة المعادية للعرب بغيضة لدرجة أن إسرائيل منعته من دخول البرلمان وأدرجت الولايات المتحدة حزبه على أنه جماعة إرهابية. اليوم، يسير تلاميذه في الشوارع الإسرائيلية بالمئات، وهم يهتفون "الموت للعرب" ويهاجمون كل من يصادفهم.
قبل نشوب الحرب الرابعة مباشرة شارك هؤلاء في موجة من العنف الطائفي في القدس والمدن المختلطة في جميع أنحاء إسرائيل، حيث هاجموا العرب بوحشية. وهكذا اندلعت حرب أهلية إسرائيلية مصغرة واندلعت المزيد من الفتنة العرقية.
الإسرائيليون الذين صدمهم العنف صوروا التطرف اليميني على أنه انحراف بغيض أو رد فعل على العنف الفلسطيني. لكن بالنسبة للمواطنين العرب، الذين يشكلون 20٪ من سكان إسرائيل، فإن ورثة كاهانا هم نتاج طبيعي لنظام تمييزي تم تطبيعهم من بعض قادة التيار الرئيسي الذين يشاركونهم وجهات نظرهم إلى حد كبير. تم انتخاب معجبي كاهانا للبرلمان في مارس الماضي كحلفاء لحزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأصبح أحد أبرزهم عنصرا أساسيا في التلفزيون الإسرائيلي.
وبينما كان التطرف الإسرائيلي يولد الاستيطان والعنف الذي يأخذ أرض الفلسطينيين أو يعتدي عليهم؛ فإن منظمة "حماس" ومعها 10 تنظيمات أخرى انبثقت من قلب جماعة الإخوان المسلمين. وفي الماضي، فإن الإعلام الدولي كان يصف "حماس" بأنها منظمة إسلامية راديكالية. لكن في الآونة الأخيرة، مع اندلاع القتال بين إسرائيل وغزة مرة أخرى، أشارت وسائل الإعلام إلى "حماس" على أنها جماعة إرهابية إسلامية. غالبية الحكومات الغربية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، صنفتها بأنها منظمة إرهابية. تأسست حركة حماس في الثمانينيات وهي تعارض منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات منذ إنشائها.
في عام ١٩٩٣، عقد عرفات السلام مع إسرائيل في سياق اتفاقات أوسلو١٩٨٧. رفضت "حماس" عملية السلام وواصلت هجماتها الإرهابية ضد إسرائيل. في عام ٢٠٠٦، فازت "حماس" بالأغلبية المطلقة في انتخابات غزة العامة. في عام ٢٠٠٧، عززت قبضتها على الجيب الساحلي من خلال انقلاب عنيف. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الضفة الغربية تحت سيطرة حركة فتح، بينما ظلت غزة تحت سيطرة "حماس". وواصلت "حماس" حربها ضد إسرائيل من داخل قطاع غزة، مدعية أنها تعمل "دفاعاً عن النفس". شاركت المنظمة في قتال عنيف ضد القوات المسلحة الإسرائيلية في ٢٠٠٨/٢٠٠٩، و٢٠١٢ و٢٠١٤. حتى نشوب الحرب الرابعة كانت "حماس" والمنظمات الأخرى تشتبك مع إسرائيل مستخدمة الصواريخ الإيرانية، ما أدخل الصراع إلى تناقض إقليمي آخر تكون فيه إيران طرفاً آخر.
القانون الأساسي للتطرف ليس البحث عن غفران للخطيئة الأصلية، وإنما تطبيق قاعدة العين بالعين والسن بالسن؛ وتعليقا على هذه القاعدة قال غاندي إنه إذا كان ذلك صحيحاً فإن العالم كله سوف يصير جماعة من العميان. وفي الشرق الأوسط فإن قوى التطرف تسعى لأخذ المنطقة كلها بعيدا عن الخلاص القائم على التنمية والسلام إلى ساحات للمواجهة التي ليس لها نهاية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة