حصن التراب.. رسالة منسية من عائلة "موريسكية"
قراءة في رواية "حصن التراب" الصادرة حديثا عن دار "العين للنشر" المصرية للروائي والمترجم أحمد عبداللطيف
ثلاث عربيات ناضرات
ذهبن لقطف التفاح
في "جيَان"
فوجدنه قد قُطف:
عائشة وفاطمة ومريم
قلت من أنتن أيتها الآنسات،
يا سارقات حياتي؟
مسيحيات نحن وكنا مسلمات
في "جيّان":
عائشة وفاطمة ومريم.
(لوركا،أغنيات شعبية)
عائشة وفاطمة ومريم، ثلاث فتيات ذهبن لقطف التفاح، ووقفن حارسات على عتبة عالم منسي كامل اسمه "حصن التراب".
هكذا يُمهد لك الروائي المصري أحمد عبداللطيف عالم روايته "حصن التراب" بشعر "لوركا"، قبل أن يُحيلك لأوراق أشجار تتساقط في زمن بعيد، قبل أن يُقلب تُربة شجرة عائلة ضخمة، ويُقلب معها إحدى مآسي التاريخ الإنساني وهي مأساة "الموريسكيين".. يكتب روايته الأحدث "لأن الذاكرة أطلال، والكتابة ترميم" كما جاء في أوراق محمد بن عبدالله بن محمد دي مولينا أحد أبطال روايته بعد سقوط غرناطة بعدة شهور.
يطرح المؤلف في "حصن التراب"، الصادرة عن دار" العين للنشر" المصرية، مأساة اضطهاد "الموريسكيين" بين تسلط محاكم التفتيش والتعذيب والطرد عبر سيرة عائلة "محمد دى مولينا"، مستعينا بقالب روائي يتحصن بألاعيب سردية يجيدها أحمد عبد اللطيف في أعماله، كاستعمال مقاطع من الأشعار والموسيقى وأقوال لأقطاب صوفيين، ممهدا لأبطاله التاريخيين طريقا مفروشا من السحر ليعينهم على استرجاع الحكاية ويعين القارئ على التماهي فيها.
رسائل
استخدم عبد اللطيف "الرسائل" كوثيقة حكائية، جعل أبطاله من خلالها يفيضون حزنا على الفقد والفراق والقهر، جعل أبطاله يضيفون عبر الرسائل المتتالية سطرا جديدا للحكاية المتصلة، من أوراق مانويل ، لأوراق عائشة وحتى خوان وكارمن دي مولينا.. إلخ
فما أن تنتهي من رسالة أحدهم حتى تسمع صداها في رسالة فرد آخر من العائلة، تتساقط مع بوحهم كقطع الدومينو.
يبدأ كل شيء في لحظة كشف يسفر فيها الأب "ميغيل دي مولينا" للابن إبراهيم عن سر عظيم، لا يهديه له على طبق من الفضة، وإنما يهديه فقط مفاتيح السر، ويطلب منه أن يختبرها، فيدخل الابن بسبب وصية الأب في عالم "حصن التراب"، يدخل في صومعة من مئات الوثائق والرسائل المكتنزة في حجرة بيت من الطوب اللبن، الذي يضم في جعبته عالما من الحكايات المنسية: "كانت باباً مفتوحاً على التاريخ.. التاريخ الذي لم أعرف عنه شيئاً".
الأرض السابعة
بدأت القصة مع مشارف رحيل الأب عن الحياة، في الأربعين يوما الأخيرة من عمره، قرر أن يوصل نهايته ببداية جديدة للابن، بداية ينطلق فيها من تاريخ جدوده، الذين ربط بينهم ميثاق غليظ، ووصية بأن يعثر على مخطوطات عجزَ الجيل السابق عن الوصول إليها، ويخط أوراقاً جديدة، طلب الأب من ابنه أن يرتب الأوراق والمخطوطات المحفوظة في سحّارة في البيت، ثم ينسخها ويترجم منها ما يستطيع.
"كأن الأوراق شجرة جذرها في الأرض السابعة، سحب كومة ووضعها على الأرض بالترتيب، كانت مئات الأوراق، قال: ستبدأ القراءة من القديم للجديد، قال: ستنجز مهمة لم أستطع أن أنتهي من إنجازها.. قال: نسخت ما استطعت، وعليك أن تتم طريقتي" ويختار الابن الوسيلة لتنفيذ الوصية كان يجب أن يعيد النسخ بالعربية وأن يحتفظ بالأصول "كان ينبغي أن أترجم من الإسبانية، كان ينبغي أن أرحل إلى كوينكا".. يطلب الأب منه أن يراعي اختلاف لغة أجداده المدجنين والموريسيكيين التي تختلف عن لغة التراث العربي، يقول له: امنح لكل جد صوته ما استطعت.
كوينكا
يسحب الأب ورقة تشبه ورقة البردي، يشارك ابنه "صاحب المهمة" النظر إليها، قال: انظر فنظرت" كانت شجرة العائلة، ربما كانت كاملة، بداية من أجدادنا الأوائل في كوينكا، نهاية باسمي" وأمره أن يضيف إلى تلك الأسماء أسماء أبنائه وبعدها يسلم تلك الشجرة "الوثيقة" إلى ابنه البكري "وصية جدنا أن تسلم الأوراق إلى الابن البكري" حتى لا ينقطع التاريخ.
تقرأ في أوراق عائلة "دي مولينا" تاريخ الموريسكيين، تستحضر تاريخ "المدجنين" الذين سبقوهم وهم من أجبروا على التنصر مع السماح لهم بالبقاء في إسبانيا، حتى تصل لمرحلة إنكار حقهم في البقاء في بلادهم بأمر من التاج الكاثوليكي، وبتهم تتعلق جميعها بالتفتيش في نواياهم، ويستعرض أحمد عبد اللطيف في ثنايا الرواية أوراقا من تلك المحاكمات.
إثناتوراف
في رواية "حصن التراب"، التي تقع في 258 صفحة، حكايات مدهشة، قصة اختفاء أم من عشرين عاما، ولقاء بعيد على تلال "كوينكا"، قصة سيدة تعيش باسم اختها، قصة لقاء فريد تم برؤيا صالحة لأبي العطاء السكندري، في الرواية تنسكب الأحلام على الواقع كالماء، فلا تدري للحظات ما هو واقع وما هو خيال وما هو نوستالجي؟
يختلط في الرواية الحجر بالبشر، يضع عبد اللطيف للحجر قلبا كعداد الساعة، يجعل التمثال يشعر ويراقب، يودع التماثيل الذاكرة وينزعها منها فتسقط حجرا، تسقط وهي شاهد وحكم على المأساة.
يمهد الأب للابن الطريق إلى "حصن التراب" وهو مهد الحكاية، التي تقع في جنوب إسبانيا وتتبع مدينة "جيان"، التي صار اسمها بعد ذلك "خآئن".. حصن التراب حيث ولدت أمه وحيث حقول الزيتون، تغير اسمها بعد ذلك وصارت "إثناتوراف" ولكن كما يقول المؤلف على لسان الأب " لكن تغيير الاسم لا يعني تغيير التاريخ، لا يعني، كما لا بد أنك تعلم، تغيير الهوية".
علاقة الابن بالأب في الرواية جزء أصيل من دائرة الحياة التي لا يمكن عزلها عن دائرة التاريخ " كلما تقدمت خطوة للحياة، يبتعد عنها أبي خطوتين، وكلما زاد شبابي زادت شيخوخته، كأن الحياة في كمالها الناصع، مكان لا يتسع لاثنين، حياتي لن تتم إلا بموته، ونضجي لن يتم إلا برحيله".
إشارات
تربط بين الرسائل مكملات سردية تعتمد على الأغاني الشعبية و"لينكات" لأفلام وثائقية وأغاني أندلسية وصوفية نوّه عنها أحمد عبداللطيف قبل البدء في قراءة الرواية، وقال في تصديره "تحتوي الرواية على إشارات للينكات موسيقية وأخرى لأفلام وثائقية لا يمكن قرءاة الرواية واستحضار حالتها دون اللجوء إليها، إنها كذلك جزء أصيل في اللعبة السردية"، وإلى جانب فواصل لوثائق محاكم التفتيش وعقود بيوت تزيد من تفهم المرحلة التاريخية وتأزم أهلها، على وقع أشعار للوركا وجلال الدين الرومي والأخطل الصغير.
تطرح الرواية تساؤلات للتاريخ، حسب ما جاء في ملخص الكتاب على غلافه "إننا أمام رواية تتوسل التخييل والتاريخ غير الرسمي لكتابة حياة أفراد عاديين فرضت عليهم السلطة السياسية والدينية أن يختاروا ما بين التخلي عن دينهم أو التهجير، ثم لم يسلموا من المقاصل والتعذيب، ثم لم يسلموا من الطرد بذريعة أنهم عرب ومسلمون، ثم نبذوا في الأرض الجديدة بذريعة أنهم مسيحيون إسبانيون.. إنها ملحمة أبطال مهزومين دفعوا حياتهم في معركة صراع ديني/سياسي لم يختاروها".