أيامٌ عاصفة تعيشها أغلب الأسر المصرية، فبمجرد الانتهاء من رعب إعلان نتيجة الثانوية العامة، أملا في حصاد المجموع المرتقب، تبدأ معركة التنسيق للالتحاق بالجامعات.
الثانوية العامة كابوس يقضّ منام المصريين، فما أن يخطو الطالب المصري أولى خطواته نحو المرحلة الثانوية، يهرب الهدوء من شباك المنزل، مصطحبًا معه كثيرًا من الراحة والروتين المعتاد، لتُعلَن حالة الطوارئ القصوى تأهبًا لهذا الغول، الذي يحتاج إلى شحذ كثير من الطاقات و"النفقات"، لتحقيق حلم الوصول إلى "كليات القمة".
لقد صنع المصريون جبلا من "العجْوة" سمّوه "كليات قمة"، وجيّشوا أنفسهم بالمال والعتاد لدفع كائن ما زال يحبو في بساتين الطفولة لتسلقه، حتى وإن كان على غير رغبة منه، وإلا فكيف ترفع الأسرة رأسها، وبنت الجيران أصبحت صيدلانية، وابن العم بات طبيبًا، والقرين سيغدو مهندسًا؟!
نسي بعض الآباء والأمهات، أو تناسَوا، أن هذا الصغير، الذي يدفعونه دفعًا لمسار قد لا يستهويه، هو وحده من سيدفع الثمن، سواءٌ بتحمله مسارا تعليميا بأعباء لا تروق له، أو بمسار وظيفي يعارض حلمه وموهبته.
ما يحدث في هذا السياق لا يعدو كونه أنانية مفرطة، ورغبة من الأهل في تحقيق أحلامهم هم، ويعتبرونها فرصة جديدة يمنحها لهم القدَر، لاستعادة حلم ربما فقدوه أو فشلوا هم في تحقيقه في صباهم، أو يعتبرونه سبيلا لاستكمال وجاهة اجتماعية، الدافع فيها لا يهم الجيل المجني عليه في شيء.
يفرح الأهل بتحقيق الحلم بعد ماراثون طويل من التكاليف وجهد جبار من "الطالب المشروع"، سواء مذاكرة أو دروس خصوصية قد تتعدد للمادة الواحدة أو ملخصات وغيرها من مستحدثات سنوية، ويصل الجميع إلى المرحلة المنشودة بجواب التنسيق، الذي يحمل البُشرى، مدونًا فيه إحدى كليات القمة، لتنتهي معاناة جماعية وتبدأ معاناة فردية، تظهر أحيانًا سريعًا في تعثر دراسي، أو لاحقا في خريج فاقد الشغف أو فاشل في أداء مهام ما بعد التخرج.
نتائج تلك الرحلة دفعت مثلا الحكومة المصرية لطرح مشروع قانون دفع رسوم مقابل دخول الامتحانات للطلاب الراسبين في المرحلة الجامعية، حيث أوضح متحدث الحكومة أن طالب الطب يكلف الدولة في العام 50 ألف جنيه، وهناك بعض الطلاب يظلون سنوات عديدة من الرسوب بالمرحلة الثالثة في الجامعة دون مبرر لهم.
ربما لم تجد الحكومة المصرية المبرر بعد، لكنني أقول: فتّشوا عن حقيقة اختيارات الطلاب، ودور الأهل في دفعهم لدراسة لم يطلبوها، ولمسار لا يريدونه! فتّشوا عن الوصاية على الطلاب في اختياراتهم دون مراعاة لموهبة أو طموح!
وإذا كنا نطالب الأسر المصرية بالتخلّي، ولو قليلا، عن "سلطة الأبوة"، بعدم الضغط على أبنائهم وتركهم لاختيار مسارات حياتهم، ودراسة ما يحبونه، انطلاقا من هواياتهم ومواهبهم، فإننا نحيّي جهود صناع السياسة التعليمية في مصر، والتي تحاول إعادة النظر في منظومة ظلمت كثيرا الموهوبين، وكذا إعادة ضبطها البوصلة نحو تنمية المواهب واحتياجات سوق العمل ومتطلبات المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة