تظل الموسيقى من أكثر اللغات التي يفهمها الشخص دون أي مترجم أو وسيط، مهما اختلفت الألسن التي تتحدث بها الشعوب.
وفي مناطقنا الأفريقية يكون أكثر التواصل بين الموسيقيين والفنانين، إذ تستطيع الموسيقى أن تعبر الحدود الجغرافية والزمنية دون أي جهد، خاصة في ظل انتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، التي اختصرت الوقت والمسافة والحدود، وعملت على تسهيل التواصل بين المختصين والمهتمين بفنون الموسيقى المختلفة.
السلم الخماسي، الذي ينتشر في منطقة القرن الأفريقي جعل موسيقى إثيوبيا تربح مهتمين ومتابعين في كل من السودان وجيبوتي والصومال وبعض دول المنطقة الأخرى، كذلك الألحان والإيقاعات الصومالية والجيبوتية والسودانية تجد رواجًا وقبولا كبيرًا لدى المتذوق الإثيوبي، وقد لا يميز الشخص بين أغنية وأخرى لفناني المنطقة، إذ صار من الطبيعي أن تجد المسارح الإثيوبية تعج بكل الأغاني، التي تخص ثقافات وشعوب منطقة القرن الأفريقي.
ومؤخرا ظهرت تحركات جديدة بين المختصين في دول المنطقة، كاهتمام المجال الفني الإثيوبي بالأغنية السودانية بصورة كبيرة ومحاولة تقديمها عبر فيديوهات بتصورات ومعالجات إثيوبية، فقد وجدت قبولا لدى جمهور البلدين، بالإضافة إلى ظهور العديد من الأغاني العربية القديمة المشهورة في إثيوبيا يؤديها فنانون إثيوبيون على الرغم من صعوبة اللغة، إلا أن الموسيقى لا بلد لها ولا تعترف بأي حدود بين قلب وقلب ووجدان وآخر.
وخلال الأعوام الثلاثة الماضية نشطت تحركات سهّلت ظهور أعمال فنية مشتركة بين الفنانين السودانيين والإثيوبيين، وأخرى بمشاركة فنانين مغاربة وصوماليين وغيرهم من الأفارقة.
ومن وقت لآخر تظهر ألحان ظلت مسار جدل طويل، حول مدى تبعيتها لأي ثقافة أو موروث موسيقي، والسبب هو تشابه السلم الموسيقي والإيقاع واللحن مع اختلاف اللغة، التي يتغنى بها المغني، وكانت هناك رؤى مختلفة حول تحديد هوية ألحان، ما بين إثيوبية وسودانية، إذ تغنى بها فنانون سودانيون وإثيوبيون كبار منذ عقود بعيدة، وظلت عالقة في الأذهان بأنها إثيوسودانية، دون أن يتم حسمها لأي طرف تنتمي بشكل صرف. وهذا لا يعني إلا أننا بصدد فن لا يعرف جنسية ويقبل مزج الشعوب في بوتقة الحروف والجمل اللحنية كعالم خال من العراك والصدام.
التشابه الآخر اللافت يوجد بين ألحان وإيقاعات موسيقية تنتمي لدول شرق أفريقيا ومناطق الأمازيغ في شمال أفريقيا، ما يطرح أسئلة حول سر هذه العلاقة بين الشرق والشمال، حتى الرقصات تتشابه بين شعوب المنطقتين كحركة الأكتاف والاهتزاز، فضلا عن الاعتماد على أنواع معينة من الدفوف والآلات الموسيقية التقليدية، التي تتشابه إلى حد كبير على مستوى أفريقيا شكلا وتركيبا وأصواتا مع اختلاف تسمياتها من منطقة لأخرى، مثل الطمبور في السودان والسمسمية في مصر والكرار في إثيوبيا، والربابة في بعض مناطق شرق السودان.
إن خير تواصُل بين المناطق الحدودية لقوميات وقبائل مشتركة في أفريقيا يكمن في آلات الموسيقى، كآلة الوازا أو الزمبارة السودانية، التي صنعت جسورا بين شعوب مناطق النيل الأزرق السودانية وبني شنقول الإثيوبية، ما يجعل من الموسيقى لغة عمومية لشعوب المنطقة، لا توقفها عوائق جغرافيا ولا اختلاف رؤى سياسية، فهي لغة للجميع، لا تعارُضَ فيها بين وجهات النظر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة