جلستُ مثل كل الناس في العالم أتابع بشغف الأخبار التي نُشرت عن التلسكوب الفضائي "جيمس ويب"، الذي كسر ظلمة الغموض عن مساحة واسعة من الكون، وكشف معها أيضًا عن مساحة واسعة من الظلمة في عقول قطاعات واسعة من البشرية.
وحين نشاهد الصور، بصفتنا غير متخصصين بالعلوم الفلكية والفضائية، فإننا نقف عند انبهارنا بالألوان والأضواء الساطعة التي تشع من النقاط المنثورة على أرضية صورة مظلمة.
ولو افترضتُ أننا شاهدنا صور التلسكوب "جيمس ويب" من دون أن نعلم مصدرها وطبيعتها، فإننا سنمرّ عليها مثل آلاف الصور التي تمرّ علينا كل يوم عبر الإنترنت، ونظن أنها مجرّد صورة مصنوعة بحِرفيّة فنان كبير، ومن ثم ننتقل إلى صورة أخرى من دون اهتمام، وقد تبهرنا صورة لشروق الشمس التي اعتدناها أكثر من صور "جيمس ويب"، لكنّنا حين علمنا ما وراء الصورة، ومن أين جاءت، وكيف صُنعت، ملأتنا الدهشة، وتوقفنا كثيرًا عندها.
وهنا تأتيني دهشة أخرى مختلفة توقفت عندها، لماذا تغيرت دهشتنا بالصور ما بين الحالتين برغم أن الصورة نفسها لم تتغيّر؟
والإجابة بسيطة: "المعرفة والثقة بالعلم".. فقد دُهشنا لأننا عرفنا ما وراء الصورة، واكتسبنا خبراتٍ معرفية عن كُنهها وطبيعتها، وكيف صُنعت، إنه العلم صانع الدهشة الأولى والكبرى للإنسان.
وسأتخيل معكم تلك الدهشة التي عاشها أسلافنا الأوائل حين اكتشفوا النار قبل مئات الآلاف من السنين، وكيف وقفوا أمامها، وكيف ملأتهم الدهشة الكبرى، وهي النار نفسها التي نُشعلها بمنتهى البساطة بمجرد ضغطة زر بأدوات الطهي في المنازل، وقد صارت لا تدعونا إلى أي دهشة، لأننا اعتدناها، ولأن بيننا وبينهم تدفقات من الخبرة والعلم والاكتشافات أكثر دهشة، فالإنسان لم يُوقِف عقله عند حدود الدهشة، بل تخطاها بعقله، وطرح الأسئلة، وبحث عن الإجابات، ومع كل إجابة تتراكم خبرة معرفية جديدة، وتولد أسئلة أخرى، ويومًا ما سيكون الفرق بين نظرتنا الحالية إلى صور "جيمس ويب" ونظرة الأجيال حينها، مثل الفرق بين نظرتنا الآن ونظرة أسلافنا حين اكتشفوا النار.
وما يدعوني إلى الدهشة الممزوجة بالعجب في جولة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، هو أنه تتكشَّف أمامنا أزمة "العقل الخرافي" عند كثير من فئات الناس في مجتمعاتنا العربية، الذي يخشى طرح الأسئلة، والبحث عن الإجابات، فقد عُطِّلت الأسئلة أمام تراث تجمَّد عند التفاسير الغيبية الخرافية لظواهر الطبيعة التي خلقها الله، وأجراها بقوانينه الحتمية، ووُجدت أزمة حقيقية في عقول تُنكر ما توصل إليه العلم لمجرد أنه ينافي في مفهومه معرفة قديمة، وصُدمتُ بفئات عديدة من المؤمنين بنظرية المؤامرة، ومن يذهب إلى أن كل تلك الصور والعلم الذي يقدّمه لنا العلماء، ولا سيّما العلوم المرتبطة بالفضاء والفيزياء الفلكية، وهْمٌ ومؤامرة كبرى تُحاك للسيطرة على عقول العالم، وتهدف إلى هدم الثوابت.
وما تزال هناك قطاعات كبيرة من مجتمعاتنا العربية رهينة "العقل الخرافي"، وما يزال التفكير العلمي في صراع مع الفكر الخرافي، وتُسهم شبكات التواصل الاجتماعي بنصيب كبير في ذلك الجدال، وأرى أنه ما يزال أمامنا رحلة طويلة حتى يخفُت صوت العقل الخرافي، ويفقد سيطرته على كثير من قطاعات المجتمعات العربية، ويأخذ التفكير العلمي مكانته الحقيقية التي يجب أن يكون عليها، وندرك قيمة الاستمرار بطرح الأسئلة من أجل العلم والمعرفة.
نقلا عن "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة