يخلط البعض بين السياسات "المالية" وبين السياسات "النقدية" في حديثهم عن الاقتصاد، لكن الفرق بينهما كبير.
وفي حقبة يحكمها حديث عن التضخم وحروب العملات فإننا هنا في حضرة السياسة النقدية.
السياسات النقدية ببساطة تعتمد في هيكلها على وضع وتنفيذ الخطط والأساليب التي يتّخذها البنك المركزي للدولة، لتحسين الاقتصاد والحد من التغيرات الدورية له، بهدف التأثير على العرض النقدي في الأسواق المالية وبالتالي الأداء الاقتصادي.
الأداء الاقتصادي في الحالة المصرية، وتحديدا عند الحديث عن السياسة النقدية، مرتبط بمحافظ البنك المركزي، طارق عامر الذي قدم اعتذارا عن منصبه بعد 7 سنوات على خزائن مصر.
خزائن مصر لدى "المركزي" تركها "عامر" في أغسطس 2022 وبها احتياطي عملة أجنبية بالدولار يبلغ 33.143 مليار دولار، وقد تسلم الرجل مهامه في 27 نوفمبر 2015 وبها 16.414 مليار دولار.
الدولار في مصر ظل الشغل الشاغل لمهندسي السياسة النقدية داخل البنك المركزي المصري لسنوات طويلة أعقبت أحداث يناير في 2011، حين اشتهر الدولار بـ"الثلاث تمانيات" أي كان سعره في البنوك 888 قرشا، مقابل أضعاف هذا الرقم في السوق الموازية غير الرسمية، فيما يعرف إعلاميا بـ"السوق السوداء".
السواد الأعظم من المصريين حمل البنك المركزي زَيْفًا مسؤولية انهيار العملة المحلية "الجنيه" في ذلك الحين، حين أقدم طارق عامر على كسر المألوف، ودمّر حاجز الخوف من الانفتاح على العالم الذي لا يعرف العملات المقيدة بأساور حديدية من الحكومات، ويعترف فقط بالعملات الحرة القابلة للتداول بطلاقة ليحرر "عامر" الجنيه من قيوده بقرار هو الأهم في تاريخ مصر الحديث، لكنه جاء متأخرا حد الاندفاع.
الاندفاع على تحويل الدولار من عملة إلى سلعة جرف المصريين إلى أرقام لم تكن تخطر على بال أحد منذ ثورة يوليو عام 1952، وقفز الدولار لمستويات قياسية حتى لامس سعر صرفه الـ20 جنيها في بعض الأحيان، ليس بسبب قرار التحرير أو التعويم كما يحلو للبعض وصفه، بل لجني أرباح تحويل المدخرات الدولارية للعملة المحلية.
العملات المحلية تتأثر قطعا بسياسات الدولة المالية، والتي تختلف عن السياسات النقدية في كثير، لعل أهم الاختلافات هو ملف الاستدانة، وهو مسؤولية تخص وزراء المالية في الاقتصادات والدول المستدينة لا البنوك المركزية، وفي الحالة المصرية أيضا ضغطت الديون على العملة المحلية بقوة، وانهار الجنيه المصري في خضم صدمات متتالية بدأت بـ"شبه دولة" بعد عام من حكم الإخوان على خلفية أحداث يناير ثم وباء كورونا، الذي أغلق العالم، وأخيرا حرب في شرق أوروبا هددت السياستين المالية والنقدية بتضخم يحتاج إلى مواجهة.
مواجهة التضخم أحد أهم مهام البنوك المركزية، سواء في مصر أو خارجها، وبالعودة إلى محاولات "عامر" فقد قاوم الرجل كثيرا في ظروف استثنائية لاحتواء التضخم المستورد، وحرك سعر الصرف مرة أخرى في مارس 2022، لكن على ما يبدو أن الأمور تخطت مرحلة التحريك الجزئي، وأصبح من الضروري أن يتم تحرير الجنيه المصري، أي تعويمه كليا، وهو أخطر ملفات محافظ المركزي الجديد.
الجديد دائما في مصر يهابه الناس، والقديم في المقابل به كل "العبر"، لذلك فإن إنصاف طارق عامر "جائز"، ولا ملامة على الرجل إلا في مواقف لا تمت للسياسات النقدية في شيء، وفي تقديري فإن دور "عامر" لم ينتهِ مع بقائه مستشارا للرئيس المصري، الذي يبني جمهورية جديدة وسط ركام وإرث ثقيل من الديون.
الديون يا سادة مسؤولية مشتركة في جميع اقتصادات العالم، و"مكروه" أن نحمّلها لشخص أو جهة واحدة، ففي مرحلة البناء الجميع شركاء، سواء مهندسو السياسات النقدية أو عباقرة السياسات المالية، وإن كنت شخصيا أميل لرأي الإمام محمد عبده حين قال: "أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يُلفظ من معنى السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تُذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم، أو يجن أو يعقل في السياسة"، وطبعا محمد عبده يتحدث عن سياسة الكيد والفساد وليس سياسة حسن إدارة البلاد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة