تتصاعد يوما بعد يوم مخاوف دخول الاقتصاد العالمي فيما يسمى "الركود التضخمي".
وتتسارع مع ذلك تحذيرات المؤسسات الدولية، والتي كان آخرها لصندوق النقد الدولي، والذي أفصح عن اعتزامه خفض توقعاته للنمو العالمي لهذا العام.
منطقيا نتوقع أن يتم خفض توقعات النمو لعام 2022 مقارنة بالتوقعات السابقة للمؤسسات الدولية حتى توقعات ما بعد الحرب الأوكرانية، بسبب مجموعة عوامل، بينها ضبابية مستقبل الحرب في أوكرانيا وارتفاع التضخم وتباطؤ الاقتصاد الصيني.
وسبق أن خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي إلى 3.6%.. فهل وصل الاقتصاد العالمي إلى منطقة الانكماش أم لا؟
ما يُغذّي مخاوف دخول الاقتصاد العالمي فيما يسمي بحالة "الركود التضخمي" تقريرٌ صدر مؤخرا لوزارة الخزانة الأمريكية يتوقع استمرار معدلات التضخم المرتفعة في الولايات المتحدة، مع تباطؤ النمو العالمي وارتفاع الأسعار، ما يزيد مخاطر التضخم المصحوب بركود.
ويتوقع بنك "جولدمان ساكس" احتمالية بنسبة 30% لدخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود خلال العام المقبل، واحتمالية حدوث ركود بنسبة 25% في العام التالي.
وقبل ذلك، توقع البنك الدولي تراجع معدلات النمو العالمي إلى 2.9% في عام 2022 نزولًا من 5.7 % في عام 2021، كما توقع أيضا أن يتباطأ النمو العالمي إلى 2.5% عام 2022، منخفضًا بمقدار 1.2% أقل من التوقعات السابقة، كما يُمكن أن تظل معدلات التضخم أعلى من 2% حتى عام 2024.
ما هو الركود التضخمي؟
هو ببساطة يعني ارتفاع معدلات التضخم رغم حالة الركود التي تشهدها الأسواق.. وهو مصطلح يجمع بين كلمتين: الركود والتضخم، فهو يصف الاقتصاد الذي يعاني من خلل، حيث تستمر الأسعار به في الارتفاع بينما ينخفض النمو الاقتصادي، وارتفاع في معدل الزيادة لإنتاج السلع والخدمات.
هذه التوليفة "السامة"، أو المتضاربة، تقود إلى انهيار النمو الاقتصادي بمرور الوقت، ومن ثم إلى ارتفاع نسب البطالة، وقد تصل إلى حد الفقر إن استمر بقاؤه فترة طويلة في بعض الدول.
وتم استخدام المصطلح لأول مرة من السياسي البريطاني إيان ماكلويد في عام 1965 لوصف ما كان يعتقد أنه "أسوأ ما في العالم، ليس فقط التضخم من جانب أو الركود من الجانب الآخر، ولكن كلاهما معا".
ورغم اختلاف التوقيت، فإن ما تشهده اقتصادات العالم من معدلات تضخم غير مسبوقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تباطأت نسبيا مع تصاعد وتيرة التشديد النقدي برفع مستويات الفائدة لمستويات تاريخية على ضفتي الأطلسي، يعني أن نشهد خلال الفترة القادمة المزيد من رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم، ووسط ارتفاع غير مسبوق لأسعار الطاقة بسبب الحرب الأوكرانية، وبالتالي أصبح المشهد يعيد نفسه لفترة الركود التضخمي في فترة السبعينيات، ولكن في مشهد أكثر تعقيدا وتشابكا.
في المرحلة الحالية، تبدو الظروف مختلفة تماما، مثلما تبدو أكثر تعقيدا، بخاصة مع تواصل تعرض الاقتصاد العالمي لتداعيات الإغلاق بسبب جائحة كورونا وتأثيرها في سلاسل الإمداد وتكلفة الشحن وزيادة الأسعار.
ما الذي يقود العالم نحو الركود التضخمي؟
الحرب في أوكرانيا مستمرة. أسعار السلع الأساسية لا تزال متقلبة للغاية وأسعار الطاقة. خصوصا أسعار المواد الغذائية مرتفعة جدا. وتباطؤ الاقتصاد الصيني يبدو أكثر خطورة مما كان متوقعا.
كما أن هناك مؤثرات أخرى مخيفة، وعلى رأسها أزمة سلاسل الإمداد وإضرابات عمال الشحن، وهو ما يرفع تكلفة مدخلات الإنتاج بشكل مرعب، وبالتالي يغذي استمرار تسارع التضخم "خصوصا في عدد من الاقتصادات المتقدمة، ما يؤدي إلى تشدد في السياسة النقدية".
الآن الصورة أكثر ضبابية من السبعينيات، والتي كان السبب الرئيسي آنذاك فيها هو أسعار الطاقة، أما الآن فالاضطرابات السياسية تجعل المشهد غير واضح وتؤثر في رغبة المستهلكين والأسواق بشكل حاد.
التحديات أيضا تصاعدت مع الارتفاع الكبير في أسعار النفط لارتباطه شديد الصلة بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، التي بدأت تأخذ أشكالا مستمرة في المواجهات المباشرة وغير المباشرة بين روسيا والغرب.
وهذه الظروف المتشابكة والمعقدة حاليا تعزز من فرضية أن التباطؤ الاقتصادي سيكون أكثر خشونة، بخاصة أن البنوك المركزية مصممة على مواجهة التضخم على حساب دعم النمو الاقتصادي، وهو ما يفتح الباب أمام مزيد من التباطؤ للنشاط الاقتصادي، لتتزايد توقعات دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة من الركود التضخمي.
ورغم مخاوف العالم أن تمر الاقتصادات بالركود التضخمي خلال أزمة كورونا، فإنه لم يحدث، بل على العكس خلال 2021 شهد العالم نموا مهولا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة بلغت نحو 1.6 تريليون دولار، وكان نصيب الأسد منها لأمريكا والصين وألمانيا.
ولكن خلال العام الجاري، ورغم الانحسار النسبي لكورونا مقارنة بالمتغيرات الأخرى، فقد خفضت المؤسسات الدولية توقعاتها للنمو الاقتصادي العالمي أكثر من مرة ليهبط بالقرب من 2% بدلا من توقعات سابقة بنحو 3.9%.
الركود التضخمي يعتبر مرحلة صعبة لأي اقتصاد، خاصة أن علاج المشكلتين متضارب، التضخم يحتاج إلى سياسات مالية انكماشية، بينما الركود يتطلب سياسة توسعية لتحريك الاقتصاد، ومن المستحيل أن يتم تطبيق الاثنين معًا.
هناك إجراءات لامتصاص الصدمة يمكن اتخاذها..
فرفع معدلات الفائدة، والتي تتجه إليه العديد من الاقتصادات ليس حلا، بل ممكن أن يكون في منتهى الخطورة، وبالذات في حالة الاقتصادات الناشئة، والحل الأفضل لهذه الاقتصادات أن تصدر أدوات مالية بأسعار فائدة متغيرة كما حدث في شهادات الـ18% التي أصدرتها مصر مؤخرا.
وثانيا يجب على الدول استغلال مواردها المتاحة وتعظيمها، وليس معنى ذلك فرض سياسات حمائية، وإنما استغلال الفرص الاقتصادية المحلية.
وثالثا التركيز على التعاون الإقليمي، وبالنسبة لدول المنطقة يجب أن تسرع الدول العربية الخطى للتكامل اقتصاديا، وهو ما تحقق مؤخرا بالشراكة الصناعة التكاملية بين دولة الإمارات ومصر والأردن، والذي تعزز بانضمام البحرين، فيما يمكن أن يمتد التعاون بينها وبين أفريقيا.
وشراكة بهذا المستوى تعكس عمق رؤى البلدان الأربعة بشأن تحقيق التكامل الصناعي وتعزيز الاستفادة من المزايا والموارد والإمكانات والخامات والقدرات والخبرات والموقع الجغرافي المتميز والقدرات اللوجستية والبنية التحتية الهائلة للنقل وحلول التمويل الذكي بهدف تأسيس صناعات تكاملية تسهم في تنويع الاقتصاد وتعزيز نموه وخلق فرص عمل متخصصة.
ورابعا، يجب على كل دولة استغلال الاتفاقيات الثنائية ومراجعتها كما الحال في الشراكة الأوروبية مع عدد من الدول العربية لتحسين ثمارها وعوائدها على اقتصادات المنطقة.
وختاما، ضرورة تأكيد أهمية خلق سياسات اقتصادية ناجعة وإدارة أكثر كفاءة للعمل على مواجهة التغيرات المتلاحقة والسريعة التي تشهدها اقتصادات العالم خلال المرحلة الحالية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة