ارتفاع منسوب سطح البحر وتهديده المناطق الساحلية يعتبر تحديا أمام دول كثيرة، ودلتا النيل وسواحل مصر تعتبران من أكثر المناطق المهددة عالميا والأكثر حساسية لتغيرات المناخ.
تقرير حديث للبنك الدولي كشف كثيرًا من الحقائق والتوقعات المثيرة بشأن هذه الأزمة، التي تواجهها مصر منذ سنوات ولا تزال، وأبرز التوقعات أن تآكل السواحل قد يكلف مصر خسائر اقتصادية فادحة تصل إلى مليارات الدولارات خلال السنوات القادمة، ويقضي على نصف شواطئها خلال هذا القرن.
لكن لماذا الأمور أكثر سوءا في مصر من بعض الدول الأخرى؟
وفقا للتقرير، فإن بعض أجزاء السواحل المصرية أكثر عرضة للتآكل من غيرها بفعل التنمية الصناعية والسياحية والتوسع العمراني، والتي غالبا ما تنطوي على عمليات مدمرة مثل التجريف، والتي تعطل نقل الرواسب التي تساعد في حماية السواحل، إضافة إلى الأحداث المُناخية المتطرفة وارتفاع مستوى سطح البحر الناجم عنها.
بخلاف أن السد العالي يحجز خلفه نحو 90% من الرواسب، ليحرم الشواطئ والسواحل الواقعة في مجرى نهر النيل من التجديد.
وبين عامي 1984 و2016، تآكلت السواحل المصرية بمتوسط 0.1 متر سنويا، ومقارنة بتونس التي خسرت في الفترة ذاتها 0.6-0.7 متر كل عام، سيبدو أن المشكلة ليست حادة في مصر مثل مناطق أخرى في شمال أفريقيا.
وبعيدًا عن تقرير البنك الدولي، فقد وجدت دراسة أخرى تبحث في تغيرات الخط الساحلي على طول دلتا النيل أنه بين عامي 1990 و2014، تآكلت بعض أجزاء الخط الساحلي بمتوسط 10-21 مترًا سنويا، وكانت المشكلة واضحة بشكل خاص، حيث يلتقي النيل بالبحر في رشيد ودمياط، اللتين فقدتا 25-36 مترًا في المتوسط كل عام.
ما القادم؟، توقعات البنك الدولي تشير إلى أن المياه ستغمر نحو 30% من الإسكندرية حال ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 0.3 متر فقط "وهو السيناريو الأكثر تفاؤلا".
وسيؤدي هذا إلى نزوح نحو 545 ألف شخص وفقدان 70.5 ألف وظيفة.. وبالمثل، فإن بورسعيد ومدنا أخرى على ساحل الدلتا عرضة للخطر.
ماذا عن الأضرار الاقتصادية؟
من الصعب قياس التأثير الاقتصادي المتوقع على النطاق الوطني، لكن توقعات البنك الدولي تشير إلى أن الفيضانات الساحلية في الإسكندرية وحدها، التي يتركز بها 40% من الطاقة الصناعية لمصر، بخلاف كونها مركزا سياحيا، يمكن أن تؤدي إلى خسائر سنوية تصل إلى 504-581 مليون دولار بحلول عام 2050.
كما يمكن أن يؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر إلى خسائر للسياحة الشاطئية في "سهل حشيش" وخليج "مكادي" بالبحر الأحمر، مع خسائر يومية قدرها 350 ألف دولار بحلول منتصف القرن.
وبالرغم من كل هذه الأرقام والتقارير فإن جهود الحكومة المصرية في مواجهة الأزمة خففت من التداعيات، رغم الظروف الاقتصادية خلال السنوات الماضية، حيث قامت بتنفيذ أعمال حماية للشواطئ بأطوال تصل إلى 210 كيلومترات، وجارٍ العمل في حماية أطوال أخرى تصل إلى 50 كيلومترًا بهدف تأمين الأفراد والمنشآت بالمناطق الساحلية، والعمل على إيقاف تراجع خط الشاطئ في المناطق التي تعاني من عوامل النحر الشديد، واسترداد الشواطئ التي فُقدت بفعل النحر، وحماية الأراضي الزراعية الواقعة خلف أعمال الحماية، والعمل على استقرار المناطق السياحية، وحماية بعض القرى والمناطق المنخفضة من مخاطر الغمْر بمياه البحر.
وتُسهم أعمال الحماية التي تشارك فيها أجهزة الدولة المصرية في تنمية الثروة السمكية بالبحيرات الشمالية، من خلال العمل على تطوير بواغيز هذه البحيرات وتنميتها، لضمان جودة مياهها.
كما تعمل مصر منذ عقود على إشراك أصحاب المصلحة في الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية، والتي تهدف إلى جمع البيانات وإجراء تحليلات المخاطر وتخطيط التدخلات الشاملة لتخفيف التآكل.
وفي عام 2017 أطلقت مصر مشروعًا يهدف لتعزيز التكيف مع تغير المناخ في الساحل الشمالي عبر تطوير 69 كيلومترا من سدود الكثبان الرملية على طول دلتا النيل للحماية من ارتفاع مستويات البحر، كما يجري العمل على وضع خطة جديدة وأكثر شمولا للإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية.
وتتحمل وزارة الري والموارد المائية المصرية نحو 70% من تكلفة المشروع، البالغة 105 ملايين دولار، بينما ستأتي البقية من "صندوق المُناخ الأخضر"، التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
من المتوقع أن يفيد المشروع، البالغة مدته سبع سنوات والذي جرى الموافقة عليه في عام 2017، بشكل مباشر في حماية 800 ألف من سكان دلتا النيل من النزوح.
كما أطلقت مصر مشروعًا آخر في عام 2020 لاستزراع غابات المانجروف على مساحة تزيد على 200 هكتار على طول سواحل البحر الأحمر، وتعمل الأشجار كدفاع ساحلي طبيعي عن طريق الحد من أضرار العواصف وحبس الرواسب تحت سطح البحر.
يوما بعد يوم تتأثر اقتصادات دول القارة الأفريقية بأنماط المناخ المتطرفة، حيث تعتمد معظمها على الموارد الطبيعية، وبالتالي فإن تبعات التغير المناخي تزيد من المخاطر الاقتصادية على القارة الأفريقية.
ومع قرب استضافة مصر لمؤتمر المناخ المقبل تطلق الحكومة المصرية "أسبوع القاهرة الخامس للمياه" قبيل فعاليات المؤتمر، باعتبارها فرصة ذهبية لعرض تحديات أفريقيا في مجال المياه، خاصة التحديات التي تواجه مصر في الحفاظ على دلتا النيل والسواحل المصرية من تداعيات التغيرات المناخية.
أفريقيا لا تتلقى سوى 3% فقط من التدفقات المالية الخاصة بمواجهة التغيرات المناخية، وهو ما يزيد من عجز القارة ودولها في مواجهة التداعيات الاقتصادية بفعل التغيرات المناخية، وسط ضعف القدرة في دول القارة على تطبيق سياسات مواجهة تغيرات المناخ وتنفيذ هذه المشروعات، خاصة في ظل عدم وجود أولويات التمويل البيئي، خاصة في فترة ما بعد كورونا.
وتعتبر قضية التمويل من بين القضايا الرئيسية المطروحة على أجندة قمة المناخ COP27، والتي يستضيفها منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر، خلال الفترة من 7 إلى 18 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بهدف إلزام الدول الصناعية الكبرى بتعهداتها الدولية السابقة بتمويل التكيف مع آثار التغيرات المناخية.
فهل تكون هذه القمة بداية النهاية لتخفيف آلام سواحل القارة وتحمُّل "الدول المصدّرة للتلوث البيئي" مسؤولياتها تجاه دول معاناتها تتزايد يوما بعد يوم؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة