تتجه أعمال تصعيد الصين في مناطق التماس الاستراتيجي، وبجوار تايوان، إلى مساحة أخرى أكثر تحديدا للأمن القومي الصيني.. وفق تعريفات القادة الصينيين.
وذلك تماشيا مع الاستراتيجية الصينية بعدم السماح لأي دولة بالاقتراب من هذه المناطق، بل وتحديد نطاقات التحرك للدول الصديقة، وهو ما يؤكد أن الصين لن تتنازل بالفعل عن أي محاولات أمريكية راهنة للاقتراب من تايوان، أو الجُزر الموجودة قرب بحر الصين الجنوبي، مع وصول وفد من خمسة نواب أمريكيين بارزين إلى تايوان، وذلك لإظهار دعم واشنطن للجزيرة، وإعلان الصين تنظيم مناورات عسكرية جديدة في محيط تايوان.
وتعمل الصين على التنسيق مع روسيا، وهو ما يتخوف من تبعاته الجانب الأمريكي، ويتحسّب له بالفعل في الفترة الراهنة والمنتظرة، خاصة أن الصين تعمل في دوائر متقاطعة ومتفاعلة ربما سيكون لها توابعها السياسية والاستراتيجية لاحقا، وفي منطقة لا تحتمل أنصاف حلول وأشباه خِيارات، وهو ما برز في التوصيف الحالي لإدارة الأزمة صينيا، وفي ظل مقاربات محددة ليس فيها تنازلات محتملة من أي طرف، وخطاب سياسي وإعلامي متصاعد من الطرفين، وقد يكون مؤسّسا لنمط جديد في العلاقات الصينية-الروسية من جانب، والصينية-الأمريكية من جانب آخر، بعيدا عن النمط التقليدي الذي كان حاكما لسياسة البلدان الثلاثة منذ سنوات طويلة.
الواضح أن طبيعة العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة، والتي يتعامل معها الجانب الأمريكي انطلاقا من حسابات حذرة وتقييمات محسوبة، تستند إلى معايير وضوابط ربما تتغير في بعض تطوراتها المفصلية، لكنها في الأساس قائمة على فكرة الدفع الأمريكي للصين إلى حافة الهاوية.
وهو ما اتبعته إدارة الرئيس السابق ترامب، وتلتزمه إدارة الرئيس جو بايدن دون بناء مقاربات جديدة، اكتفاء بما هو مطروح من سياسات تم الإعلان عنها رسميا في إطار الاستراتيجية الأمريكية المؤقتة، التي أعلنها بايدن في مارس 2021، وحملت رؤية حقيقية للتعامل مع الشركاء، ومع الصين وروسيا في إطار سياسات ليبرالية أكثر تشددًا، ومن خلال مقاربة تعتمد على تطويق ومحاصرة الصين، وهو ما برز في الأزمة الراهنة الخاصة بإدارة العلاقات مع تايوان، واستمرار التهديد باستخدام القوة العسكرية في الحسم ومواجهة ما يجري، وهو ما قد يؤدي لمزيد من حالة عدم الاستقرار في منطقة جنوب شرق آسيا، خاصة أن الجانبين الصيني والروسي يتأهبان لمواجهة ما هو قادم من سياسات واستراتيجيات أمريكية في التعامل، في ظل منهج مصلحي قائم على محاصرة أي مد مقابل، سواء في نطاقات آسيا، أو بالجوار الإقليمي، وامتدادا إلى النطاقات الخاصة بحلف الناتو، والذي بدأ التوسع إلى منطقة الشرق تدريجيا، وهو ما برز مؤخرا في انضمام فنلندا والسويد، وتصميم الإدارة الأمريكية على إلحاق البلدين بالحلف، وهو ما تم بالفعل، برغم تحفظات تركيا علانية وبعض الدول الأخرى من وراء ستار، تخوفا من تدخلات روسية متحفظة بالفعل على ما يجري، وتخوفا من إقدام روسيا على التصعيد من مسرح عمليات أوكرانيا إلى مسارح أخرى، ولو بصورة غير مباشرة، وهو ما يدركه الجانب الأمريكي جيدا.
ومن ثم فإن ما يجري من مواجهات صينية-أمريكية حالية محكوم بسياسات كل جانب، ويجمع في منطلقاته بين السياسي والاستراتيجي، وعقد المقارنات الممتدة، والتي قد تكون مدخلا لاستمرار المشهد الراهن، أو العمل على خيارات أخرى بديلة مع الاستمرار في شد الأطراف لتحقيق المصالح على قاعدة نفعية في المقام الأول، بدليل استمرار التخوف الأمريكي من استمرار التنسيق الصيني-الروسي، وانضمام دول أخرى، وعلى رأسها كوريا الشمالية وإيران وغيرها لهذا التحالف، وهو ما قد يغير من قواعد اللعبة الراهنة بين الأطراف المختلفة، وهو ما تدرك تبعاته إدارة بايدن جيدا وتسعى لإفشاله عبر استراتيجية المواجهة والتطويق، خاصة أن السياسات الأمريكية طوال خمس حقب متتالية لم تغير من طبيعة تعاملاتها السياسية والاستراتيجية الخاصة بملف تايوان، بل عملت في نطاقات محددة، وقرب مناطق المواجهات دون أن تستخدم الخيارات العسكرية، وهو ما تدركه الصين جيدا في الوقت الراهن وفي نهج تعاملها مع التهديدات الأمريكية الكبرى.. وبما قد يهدد الأمة الصينية من مخاطر في مناطق حضورها السياسي والاستراتيجي، وقد يكون للتطورات المفصلية داخل الصين دور في التعامل وقراءة محددات الخطر الأمريكي، وتحديد بوصلة التحرك الراهن في مواجهة ما يجري ويخص التعامل مع تايوان، ومناطق التماس المجاورة، وهو ما سيعبر عنه الحزب الشيوعي في اجتماعه المقبل.
سيستمر التأكيد الصيني أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، وأن محاولة الولايات المتحدة العبث بالوضع الراهن المستقر والمحسوم للجانب الصيني لن تُجدي، وبرغم تأكيد الإدارة الأمريكية أنها لا تبحث عن أزمة مع بكين، لكنها في التوقيت نفسه لن تسمح بمنعها من الوجود في شرق المحيط الهادي، وهو أمر يشير إلى موقف أمريكي متعدد المقاربات، بدليل توقف محادثات المناخ مع الولايات المتحدة، وكذلك التعاون في منع الجريمة عبر الحدود، وإعادة المهاجرين غير النظاميين، من بين إجراءات أخرى محددة، ما يشير إلى استمرار حالة التأزم، والتي ستزيد وتتنامى، إضافة لإعلان الصين فرض عقوبات على رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، وعائلتها، ردا على ما وصفته الصين بـ"أفعالها الخبيثة والاستفزازية"، وفي المقابل استدعى "البيت الأبيض" السفير الصيني للتنديد بتصعيد الإجراءات ضد تايوان، وتأكيد أن الولايات المتحدة لا تريد أزمة في المنطقة.
هذا نموذج لما هو آت بين واشنطن وبكين، من استمرار حالة التصعيد إلى تبني إجراءات وسياسات أقل ما توصف به أنها "عدائية"، مع إدراك الصين أنها يجب أن تكون حذرة أولا من أن الولايات المتحدة لا تستطيع قبول الهزيمة، وأنها ستعمل على زيادة وجودها العسكري في المنطقة، بل والعمل على تصعيد الموقف الراهن، وكذلك وضع الخطط الاستباقية لخلق أزمة جديدة واسعة، وهكذا تراهن الصين على "الخيار الصفري".
في المجمل، تستنتج الصين من تجربة روسيا في أوكرانيا، أن العمل وفق مبدأ القوة سيكون الطريقة الصحيحة لحسم قضية تايوان لصالحها.. وفي الوقت نفسه ستبقى هناك أسئلة حول قدرة الولايات المتحدة على تحقيق مكاسب حقيقية، لأن إدارة الرئيس بايدن أشارت إلى ضرورة الدفاع عن تايوان، وإلا فالمصداقية الأمريكية بأكملها في آسيا ستكون محل تجاذب حقيقي.
خطط إدارة الرئيس بايدن للتعامل مع الأزمة الراهنة تتطابق مع خطاب إنكار التهديد الصيني لتايوان، وإن كان هناك فجوة كبيرة بين الكلمات والأفعال في موقف كل طرف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة