توحي تصريحات ومواقف تركيا الأخيرة من أزمة سوريا بإمكانية عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق، فالظروف تغيرت، والمصالح كثيرة، والتوافقات بين الجانبين مهمة، وللجغرافيا أحكامها.
في تاريخ العلاقة التركية-السورية ثمة لحظات كانت الحرب فيها على الأبواب قبل أن تتحول إلى تسويات، كما حصل عام 1998 خلال الأزمة التي عرفت بـ"أزمة أوجلان"، عندما حشدت تركيا قواتها على الحدود السورية، وهددت بعمل عسكري ضد دمشق، ما لم تسلّم أو تطرد "أوجلان" من على الأراضي السورية، فكان لها ذلك، ومن ثم اعتقال "أوجلان" في العاصمة الكينية، نيروبي، وتسوية الأزمة بين الجانبين من خلال التوصل إلى اتفاقية "أضنة" التي يجري الحديث عن تطويرها هذه الأيام كمدخل لإعادة ترتيب العلاقة بين الجانبين.
ولعل ما يدفع المرء إلى الاعتقاد بحصول مثل هذا السيناريو من جديد هو جملة عوامل، من أهمها:
الأول- توافق الجانبين على رفض الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي سوريا، خاصة أن هذا الأمر شكّل أولوية تركية طوال السنوات الماضية، حيث شنت تركيا ثلاث عمليات عسكرية لتحقيق هذا الهدف.
الثاني- أن روسيا تُلقي بثقلها السياسي لإعادة العلاقات الرسمية بين الطرفين، ولهذه الغاية رعت عددا من اللقاءات بين مسؤولين أمنيين من الجانبين خلال الفترة الماضية، وهي تريد من وراء ذلك تحقيق جملة أهداف استراتيجية، من أهمها إضعاف النفوذ الأمريكي في شرقي سوريا، ودعم موقفها الإقليمي والدولي في أزمة أوكرانيا، ولعل ما يسهل مهمة بوتين هنا هو علاقته المميزة بكل من الرئيسين "الأسد" و"أردوغان"، وقدرته عبر هذه العلاقة على هندسة مسار الأزمة السورية، والعلاقة بين الجانبين التركي والسوري.
الثالث- المصلحة التركية الداخلية في التقارب مع دمشق، فأنقرة باتت ترى في هذا التقارب جملة فوائد ستنعكس على الداخل التركي، في المقدمة منها حلحلة قضية اللاجئين السوريين في تركيا، وفتح بوابة حدودية مهمة لتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية مع سوريا والعالم العربي، والأهم بالنسبة للرئيس "أردوغان" هنا هو كيفية وضع كل ما سبق في خدمة رصيده الشعبي في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
الرابع- توحي التصريحات التركية الأخيرة بخصوص إمكانية الانفتاح على دمشق، بأنها امتداد للتحولات التي تشهدها السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي، فمن التقارب مع مصر ودول الخليج العربي وصولا إلى إسرائيل، تبدو تركيا ماضية في تعميق العلاقات مع هذه الدول بعد أن استبدلت بسياستها السابقة سياسة المصالح المشتركة، وهو ما يقابَل بالترحيب في العالم العربي.
أمام هذه التقاطعات في المصالح بين دمشق وأنقرة قد لا يجد "أردوغان" أي عائق للقول: لنجعل من العقد الماضي مجرد فاصل سياسي في تاريخ العلاقات التركية-السورية.
وفي الداخل التركي لن يجد الرئيس "أردوغان" معارضة لمثل هذا التوجه، بل إن أحزاب المعارضة التركية تطالب منذ زمن بإعادة العلاقات الرسمية مع دمشق للتخلص من أعباء اللاجئين السوريين عبر إعادتهم إلى بلدهم، وحتى قضية إدلب لم تعد تبدو بالأهمية ذاتها لتركيا في ظل التفاهمات الروسية-التركية.
في المقابل، أعلن مسؤولون سوريون مرارًا عن استعدادهم لبحث إعادة العلاقة مع تركيا شرط انسحابها من الأراضي السورية، ووقف دعمها للفصائل والجماعات المسلحة.
في الواقع، قد يرى البعض أن "أردوغان" لن يفعل ذلك لأسباب سياسية وأيديولوجية، وأخرى تتعلق بالعقبات والتحديات التي ستواجه إعادة العلاقة مع دمشق، لكن الثابت الذي يجب معرفته هنا هو أن "أردوغان" لا يفكر بهذه العقلية، وإنما يفكر أولا وأخيرا بمصلحة بلاده، وعندما يرى مثل هذه المصلحة من إعادة العلاقة مع دمشق فلن يتوانى عن المصالحة مع الرئيس السوري بشار الأسد، لتفيض مياه الفرات مجددا بين أنقرة ودمشق، ومعها تتدفق قوافل الشاحنات وحركة التجارة والمعامل والمصانع، حيث الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلدين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة