معالجة مشكلات الخروج "المنقوص" للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي هو أصعب وأكبر المهام التي يرثها خليفة بوريس جونسون في زعامة المحافظين ورئاسة الحكومة البريطانية المقبلة.
وسواء كان الظافر في انتخابات الخامس من سبتمبر المقبل وزيرة الخارجية ليز تراس أو وزير الخزانة السابق ريشي سوناك، فإنه لا يستطيع تجاهل أزمة "بريكست" بأبعادها الداخلية والخارجية، ولا يمكنه إغماض عينيه عن تداعياتها السياسية والاقتصادية.
عقدة بروتوكول أيرلندا الشمالية هو ما سيبدأ به المرشحان، لأنها أم المشكلات كلها، التي ولدت بين بروكسل ولندن منذ بدء تنفيذ اتفاق "بريكست" في 2020.
أما الأمر الثاني فهو وقف القوانين الأوروبية التي لا تزال سارية المفعول في المملكة المتحدة رغم "طلاق" الطرفين.
والأمر الثالث هو معالجة أزمة المهاجرين غير الشرعيين الوافدين من فرنسا عبر بحر المانش.
الخلاف حول بروتوكول أيرلندا الشمالية هو أبرز التباينات بين الطرفين.. والمرشحان لرئاسة الحكومة البريطانية يتبعان نهج جونسون نحو تفعيل المادة 16 من اتفاق "بريكست"، التي تتيح للمملكة المتحدة أو الاتحاد الأوروبي اتخاذ خطوات وإجراءات لتعديل البروتوكول وليس إلغاءه، حال جلب تنفيذه صعوبات اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية خطيرة للبلاد.
وقدمت حكومة جونسون للبرلمان مشروع قانون لتعديل بروتوكول أيرلندا الشمالية في يونيو/حزيران الماضي.. حظي بموافقة أولية من غالبية النواب، ولكنه لا يزال يحتاج إلى إقرار نهائي.
وفي حين تقول لندن إنها تريد تبسيط إجراءات البروتوكول، تعتبر بروكسل الخطوة بمثابة خرق للقانون الدولي يستدعي الرد بإجراءات قاسية قد تصل إلى حرب تجارية.
"تراس" و"سوناك" يستندان إلى تيارات متشددة في الحزب الحاكم، تؤيد الخيارات الصعبة في معالجة الخلافات مع الاتحاد الأوروبي. صحيح أن هؤلاء لا يمثلون 3% من البريطانيين، ولكن حرص المرشحين على استمالتهم لكسب أصواتهم في انتخابات سبتمبر المقبل، يقدم مؤشرا سلبيا على إمكانية ممارسة مرونة أكبر من "تراس" أو "سوناك" تجاه التفاوض مع بروكسل.
المشكلة في البروتوكول أنه عطل الحياة السياسية في أيرلندا الشمالية حتى باتت لندن تخشى عودة الحرب الأهلية إلى الجزيرة الأيرلندية وهي في الوقت ذاته لا تريد القطيعة مع الاتحاد الأوروبي.. لذلك لا بد من التفاوض مع بروكسل لإعادة صياغة البروتوكول بمرونة أكبر، وبعيدا عن إمكانية وجود حدود برية تقوّض اتفاق الجمعة العظيمة للسلام بين بلفاست ودبلن.
في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ثمة تعهد آخر قطعه كل من المرشحين لرئاسة الحكومة المقبلة، وهو إلغاء القوانين الأوروبية التي لا تزال سارية المفعول في المملكة المتحدة رغم "طلاق" لندن وبروكسل.
"تراس" وعدت بالتخلص من هذه القوانين قبل نهاية 2023. أما "سوناك" فقد وضع لنفسه إطارا زمنيا يمتد حتى الانتخابات البرلمانية المقبلة في 2024.
المشكلة تكمن في تداعيات إلغاء القوانين الأوروبية بشكل ارتجالي.. صحيح أن سوناك وتراس يمتلكان الأكثرية البرلمانية الكافية لتنفيذ تعهدهما وإصدار قرار يسمح بإلغاء القوانين الأوروبية التي لا تزال متبعة في المملكة المتحدة.. ولكن التطبيق الفعلي لهذا القرار يحتاج إلى بدائل حاضرة وعملية تجنب البلاد أي نتائج عكسية لا تُحمد عقباها.
منذ 2020 لم تتمكن الحكومة البريطانية من إلغاء أكثر من 15% من تلك القوانين الأوروبية المعمول بها بريطانيا، والتي يبلغ عددها 2400 تشريع.
والسباق، الذي يخوضه المرشحان لإلغاء هذه القوانين قبل الموعد المحدد في اتفاق "بريكست" عام 2026، ينطوي على دعاية انتخابية لكسب أصوات قواعد حزب المحافظين ولا يرتبط بحاجة فعلية للبلاد.
المرشحة لقيادة حزب المحافظين ماضية نحو تغيير القوانين بشكل شامل، ولكن يبدو أنها ستبدأ بالخدمات المالية لـ"تعزيز" مكانة لندن كمركز مالي عالمي ينافس المراكز الأخرى في القارة العجوز، مثل باريس وأمستردام.
وفي هذا الصدد ستطلب "تراس" من المشرعين المختصين العمل على تغيير بعض قوانين بنك إنجلترا كي "يتحرر" من التبعية الأوروبية.
من القوانين الأوروبية، التي يسعى المحافظون إلى "بَرْطنتها" أيضا قبل منتصف عام 2023، تلك المتعلقة بالبيئة والتزام دول القارة العجوز بالوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2036.
وربما يبحث المرشحان عن بعض المرونة في خطط البيئة بعد تداعيات حرب روسيا وأوكرانيا، وما جلبته من تغيرات على خارطة الطاقة في المملكة المتحدة والعالم ككل.
ومن المشكلات التي أفرزتها القوانين الأوروبية أيضا، صعوبة تنفيذ الحكومة البريطانية لخطة لترحيل المهاجرين إلى رواندا.
هذه الخطة، التي أوقفت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أولى رحلاتها قبل أشهر، ولكن سوناك وتراس يصران على المضي بها أيا كان الثمن.. حتى إن تراس تفكر بوجهات أخرى لترحيل اللاجئين في القارة السمراء ذاتها أو في آسيا.
لا ضَيْرَ حتى في الانسحاب من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية إنْ كان هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق أهداف حزب المحافظين في وقف الهجرة غير الشرعية عبر بحر المانش.. خاصة أن محاولات التعاون مع فرنسا في هذا المجال لم تثمر كما يجب.. ولماذا يمكن أن تقدم باريس يد العون للندن في هذا المجال ما دامت لم تعد عضوا في الاتحاد الأوروبي؟!
في محاربة الهجرة غير الشرعية عبر بحر المانش أيضا، وعد سوناك بوضع حد أقصى لعدد اللاجئين المقبولين سنويا.. كما قال إنه سيعزز من سلطات الجهات المختصة لاحتجاز ومراقبة من يدخلون البلاد بشكل غير قانوني.
أما "تراس" فقد تعهدت بزيادة عدد أفراد قوات الحدود وخفر السواحل في المملكة المتحدة من 9 آلاف إلى نحو 11 ألفا بشكل عاجل.
تقول الأرقام الرسمية إن أكثر من 17 ألف شخص وصلوا إلى بريطانيا عبر بحر المانش على متن قوارب صغيرة منذ بداية 2022.. قد تنجح حكومة المحافظين المقبلة في ترحيلهم، ولكن ألا يبدو استغلالهم في ردم الهوة الكبيرة التي خلقها "بريكست" في سوق العمل البريطانية أكثر حكمة خاصة وأن مواطني الاتحاد الأوروبي باتوا بالنسبة لبريطانيا غرباء كغيرهم من سكان العالم، وقوانين حكومة لندن في استقدام العمالة الأجنبية لا تسمن ولا تغني من جوع؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة