مشهد الحشود المكتظة من المتظاهرين الذين غصت بهم قاعة البرلمان العراقي اكتمل بتعليق مراسل قناة إخبارية يصف فيه الحال في المنطقة الخضراء بقوله: كل شيء هنا موجود حتى الباعة المتجولون يقدمون الأكلات الشعبية والشاي وحتى الأرجيلة.
يبدو المشهد باذخًا حد الإفراط في وصف الديمقراطية بمعاييرها الأعلى في الذهنية الإسلاموية.
ويبدو أنه لا فرق بين ما قام به "إخوان مصر"، عندما رفع أحدهم الأذان للصلاة في البرلمان المصري وبين تحويل البرلمان العراقي لدار عبادة تُقام فيها الطقوس الدينية.. مشهدان يمثلان الإسلام السياسي في تطبيق للنظام الديمقراطي العلماني.
راهنت وتراهن وستراهن الجماعات الأيديولوجية الإسلاموية على الشعبوية بما فيها التحشيّد الجماهيري في استعراضاتها لحجم تمددها في داخل المجتمعات باستغلال حاجات الناس العاطلين عن العمل والفقراء، فهذه شرائح مجتمعية مواتية يمكن دائمًا الزج بها في أتون الصراعات والمزايدات السياسية، البطون الخاوية اعتادت أن تحصل في المواسم الانتخابية على ما يملؤها من طعام، ففي هذه المواسم يقدم المرشحون من الأطعمة والأغطية ما يمكنهم من شراء الأصوات ليصلوا بها إلى برلمانات صورية، ليحصلوا منها على الحصانة البرلمانية، وبعدها يسطون على الأموال والمناصب، فالحصانة توفر لممثل الشعب نهب الشعب في الديمقراطيات العرجاء.
لا تنفك المشاهد الموازية للمشهد العراقي عن تلكم المشاهد التي شهدها ميدان التحرير في مصر، ولا تلك التي عرفتها صنعاء عندما كان يتبادل الرئيس السابق علي صالح ومنافسوه -"إخوان" اليمن- التسابق على حشد الجوعى والعطشى والمتعاطين للقات في ميدان السبعين... كلها مشاهد واحدة وإنْ تغيرت العواصم والمدن، غير أنها تتوحد في استغلال حاجة الناس والجهل السياسي عبر أنظمة ديمقراطية مختلة قانونيًّا، بل وحتى شرعيًّا. فهذه الديمقراطيات الهشة تُمّكن القوى الانتهازية من مصائر البلدان وتقودها إلى ما هو أردى.
يقول صاحب كتاب "سيكولوجية الجماهير" غوستاف لوبون: "في زمن المساواة لا يعود البشر يثقون ببعضهم بسبب تشابههم، ولكن هذا التشابه يعطيهم ثقة لا حدود لها تقريبًا في حكم الجمهور ورأيه، وذلك لأنهم يجدون من غير الممكن ألا تكون الحقيقة في جهة العدد الأكبر، بما أن الجميع يمتلكون العقل نفسه"..
هذا ما يحدث تمامًا بإسقاط كل قيم وأركان الدولة الوطنية بمفهومها الحديث واستبدال العدد الأكبر من الحشود المليونية وحتى المليارية بها، بحسب الأيديولوجية الدينية، التي ترى أن "الخلافة هي الحل" و"الإمامة بحسب المذهب الشيعي هي البديل للدولة الوطنية".
أمام هكذا مشهدية لا بد من استدعاء عاجل لخطاب إعلامي يرتقي لأهمية الحدث، فبدلاً من تسويق ترهات وشعارات المتنازعين من زعامات طائفية متعصبة.. فالأجدر هو تفكيك الشفرات وتوضيح الحقيقة، فلا يمكن لعب دور شاهد الزور للتستر على اختطاف العقل العربي، هذا وقت ملائم لتوضيح حقيقة أنه من الخطأ الاستمرار في ديمقراطية منتجة للمؤدلجين المتشددين.. آن الأوان لوضع حد قاطع مع هذه الديمقراطيات المشوهة، فليس من المنطق التواصل مع منتج ينتج المزيد من البؤس والتجهيل.
الكل يدرك أن ما يقتل الديمقراطية هي المحاصصة، فكيف بمحاصصة تقوم على الطائفية، وتعتمد معاييرها وفقًا لمقتضيات ما توفره العملية السياسية لرجال الدين والمعممين الذين بالأصل يعتقدون أنهم يمتلكون حظوة إلهية وقدسيات اكتسبوها من كتب تراث لم تُراجَع، فمنها حصلوا على أن لحومهم مسمومة فلا يجوز بذلك نقدهم حتى وإن أغرقوا البلاد بالدماء وزادوا على الجوع جهلاً وفقرًا.
فما يطلبه المتظاهرون ليس أن تتحول البرلمانات لدور عبادة أو مطاعم شعبية ومقاهٍ للأرجيلة، بل أن تتحول إلى مكانٍ للمحاسبة والمراقبة وإقرار قوانين تدعم أركان الدولة الوطنية ولا تهدمها.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة