"ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟".. سؤال تردد على مسامعنا جميعا حين كنا صغارا لا يشغلنا إلا اللعب والحلوى والكرتون.
كان عالما خاليا من التفكير والقلق على المستقبل، لكن كانت إجاباتنا تجري وراء أحلام بلا تعب وقتها، وتراوحت أحلامنا تلك بغدنا عندما نكبر بين طبيب/معلم/لاعب كرة/رائد فضاء وضابط، وغيرها من الوظائف، التي وجدناها ممتعة واسترعت انتباهنا واهتمامنا بشدة في المسلسلات وحياة الجيران والأقارب.
وها قد كبرنا.. وقد صار السؤال إياه عبئا على مسامعنا، لكننا نكرره على صغارنا، لكن كيف لصغير لم يختبر الحياة بعد أن يحدد ماذا يريد أن يفعل عندما يكبر؟ فهو لم يستكشف العالم من حوله، ولم يعرف كُنه ذاته أصلا، هذا سؤال كبير وثقيل على النفس البشرية الضعيفة التي لم تر كم هي صغيرة في هذا العالم..
ربما يتأخر كثيرون في اكتشاف مواهبهم، وبالتالي طرقهم في الحياة ومصائرهم، لكن يبدو أن سؤال "ماذا تريد؟" يثير في نفوس الكثيرين إجابات مادية، فيما تتوارى القيمة خلف الوظيفة والوجاهة.. فهل فكر أي صغير منا أو كبير أن يكون إنسانًا قبل أن يصبح طيّارا أو طبيبا أو مهندسا؟
إن أهم ما يُغرس في الطفل ليس المنصب والوجاهة الاجتماعية، وإنما القيم التي سيكون عليها في المستقبل، فهي زاده في هذا العالم الذي صارت القيم فيه محاصرة وغير مرئية.
نسمع كل يوم عن حوادث دموية ربما لم يكن يُتخيل أن يفعلها بشر عادي يعيش بيننا.. ونجد الجميع تقريبا يشكو في هذا الزمان "سوء الأخلاق" وتفشيها بين الناس بشكل غير طبيعي، مترحّما على ما يسمونه "أيام زمان".. صرنا نسمع عن مصطلحات التنمّر ونرى أزمات الطبقية والاستعلاء في أنصع صورها في مجتمعاتنا، التي تخوض غمار أزمات اقتصادية تُلهي كثيرين عن ثوابتهم.. تُلهيهم عن أن يكونوا ذلك الإنسان قبل كل شيء وأي شيء.
هل يمكننا تعديل السؤال المطروح أعلاه من: ماذا تريد أن تكون حين تكبر؟ إلى سؤال أنفسنا السؤال التالي: "ماذا أريد أن أعلّم أبنائي من قيم في هذه الحياة؟ أو ماذا سأقدم للمجتمع عبر هذا الطفل/طفلي؟
ما يبقى من البشر هو الصفات التي لا تزول، بعكس المناصب والشكليات الزائلة.. فالصراعات على سلطة أو كرسي وإثبات القوة والثراء والتسابق نحو ملذات الحياة أمور مؤقتة مهما طالت، وصغيرة مهما بدت في أعيننا كبيرة الآن.. إن الشيء الباقي هو ذلك الإنسان الذي يسكننا.. هو تلك الإنسانية التي ننتمي إليها وحدها.
فليمارس أطفالنا الرياضة التي يريدونها، لكن الأهم أن يعلموا أن بها أسس الأخلاق، فهي أولى من الرياضة ذاتها، وليتعلموا العلوم المختلفة ويتفوقوا، لكن عليهم أن يعرفوا أننا لسنا في سباق درجات إلا فيما يخص إنسانيتنا، التي تمثل الأساس لإنسانية مجتمع كامل نشكوه دائما بأنه صار ماديا، وننسى أننا كنا عوامل مؤثرة في هذا التكوين المادي، الذي هجر الروح وصار كتلة جسد ورغبات وصراعات.
قبل أن نسأل أطفالنا علينا أن نجيب نحن عن الأسئلة: ماذا نريد؟
ولماذا لا نكون قدوة يقلدها أطفالنا -إن أردناهم فعلا ذلك الإنسان خليفة الله في الأرض؟
لن يكون أطفالنا في المستقبل إلا على صورة نرسمها نحن الآن.. فإن أردناهم أهل إنسانية وأخلاق بقوا وبقيت معهم أخلاقهم، وإن أردناهم أهل مادة ذهبت أخلاقهم وذهبوا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة