بعد الثانوية العامة يأتي التنسيق ثم الجامعة.. معروفة.
بعد الزغاريد ندخل "كلية قمة"، معروفة أيضا. لكن الحاصل على المرتبة الأولى في الثانوية العامة المصرية قرر عدم صعود "القمة التي نعرفها".. غريبة!
اختار الطالب عمر شريف عبد المنعم، الحاصل على المركز الأول -شعبة الرياضيات- بالثانوية العامة، أن يستبدل بالهندسة الحاسبات والمعلومات.. يبدو أن الجيل القادم بدأ يفهم ويغير طريقة تفكيره والحمد لله.
عشنا سنواتٍ وسنواتٍ في مصر على وهم "كليات القمة"، التي قد لا تصبح على قمة المجالات المطلوبة في المستقبل القريب. الطالب "عمر" أدرك أن المستقبل للإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات، فقرر سلوك هذا المجال. ويبدو أنه فهم مبكرا أنه لا داعي أن نظل واقفين في أماكننا حتى يأكل علينا الزمان ويشرب.
تحدثنا عن فكرة انقراض المهن وتنمية المهارات ومجاراة العصر في مقالنا السابق.. والموضوع هنا مرتبط بما قلناه ارتباطا وثيقا.. فعلى الأغلب تتحدد مهنتنا بتحديد مجال الدراسة، وإلا يكون وقت الجامعة مجرد سنوات مهدرة بلا قيمة، غرضها شهادة نلقيها في درج المكتب، ثم "نشوف مستقبلنا بقى بعدها".
يجب أن يعي خريج الثانوية العامة جيدا أن اختياره له تبعات، وأن الأمر لا يتوقف عند مكالمة أحد الأقارب مباركا مفاخرا بالذي دخل كلية "كذا"، ما شاء الله!
وهنا يحضرني مشهد الفنانة عبلة كامل في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" الشهير، حينما ألحق مكتب التنسيق ابنها -عبد الوهاب- بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فتصورت الأم الغلبانة أنهم "دخّلوه كُليتين مع بعض مرة واحدة، بركة دعاء أمه".
ولا يخفى علينا طبعا تخبط "عبد الوهاب" بعدها طوال الرواية/المسلسل في رحلة البحث عن نفسه، ليكتشف في النهاية أنه تاجر مثل أبيه تماما بالفطرة.. وأنه كان يهرب من ذلك المسار لعُقدة ما في نفسه، لا لأنه يهوى شيئا آخر مثلا..
مكتب التنسيق لم ينفعه، و"كلية القمة" لم تشفع له.
الوضع أصبح أصعب والمستقبل يتسارع أمامنا، وما كنا نتوقع أن يحدث بعد عشرات السنوات يحدث الآن.
لقد أعلن وزير التعليم العالي المصري الدكتور خالد عبد الغفار، منذ أيام، عن 9 مهن سيختفي الطلب عليها بحلول 2025، منها مثلا مهنة "المحاسب" و"مُدخل البيانات" و"موظف المخازن" و"السكرتارية الإدارية".. فهل يعلم طالب التجارة مثلا أن المهنة التي يتخرّج معظم أبناء كليته ليمتهنوها قد تختفي قريبا؟
هذه تصريحات يجب ألا تمر علينا مرور الكرام.
كنا ندعو من قبل أن يكون الاختيار على أساس الميول ونقاط التميز والهوايات، ولم يعد ذلك كافيا.. فقد تكون الهواية في أساسها غير كافية لأن يكون لك مستقبل في هذا العصر مع الأسف.. هوايتك بمعناها الأساسي قد تنازعك فيها آلة وسط هذا الصراع المحموم.. لكن الفيصل اليوم بمجال الدراسة، الذي يعطيك مهارة أساسية مهمة ويضعك على أول الطريق كي تطور ذاتك.
حاوِل أن تجد أقرب طريق لميولك في مجالات الدراسة التي تعطيك مهارة أساسية في سوق العمل، ولا تتوقعْ أن تقف عندها.. فالتطوير والتعلم المستمر أصبح فرض عين الآن.
مثال لشخص اجتماعي ويحب الكتابة وسرد الأخبار ولا يعاني من "رهاب التحدث أمام الجمهور".. في أوائل القرن الماضي كانت المهنة المناسبة له هي "المُنادي".. في منتصف القرن ومع انتشار المطابع والصحف أصبح هذا الشخص هو "الصحفي".. ثم مع التليفزيون ونشرات الأخبار قد يكون "صحفيا أو معدا أو مذيعا" -حسب تمكنه من المهارات المختلفة التي تصب كلها في حب الحكاية وعدم الخوف من التحدث أمام جمع من الناس.
ثم تطور الأمر أكثر بدخول مواقع الأخبار على الإنترنت ليطور هذا الصحفي نفسه أكثر ويكتسب المعرفة الرقمية، ومعها مهارات مواقع التواصل الاجتماعي ليحكي أخباره على المواقع والمنصات المختلفة… وهكذا... الجوهر الأساسي للسمات الشخصية واحد، لكنه يتطلب تطورا ومرونة وتعلمًا.
فقدنا أمانَ أن ندرس ونتخرج في الجامعة لنجد عملا وراتبا نعيش به فنكوّن أسرة حتى يأتي سن المعاش ونتقاعد في سلام ونعيش عيشة كريمة.. أصبح لزاما علينا أن نظل نركض في مضمار المستقبل، لأننا إنْ لم نتقدم سنتأخر.. لن نقف في أماكننا بالتأكيد والعالم يجري من حولنا.. ومَن يعِ ذلك مبكرا يوفرْ على نفسه كثيرًا من العناء فيما بعد.
الشاهد، أسوأ الاختيارات هو ما نختاره لننال رضا الناس، والأفضل من ذلك أن نختار ما يرضي أنفسنا، لكن الأفضل على الإطلاق أن ندرس الواقع ونختار ما يتوافق مع نقاط التميز لدينا وواقعنا الذي نعيشه على حد سواء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة