في السادسة صباحًا اهتز معصمه خمس مرات كالعادة بفعل القيد الاختياري الذي يسمّيه العالم اليوم "الساعة الذكيّة".
استيقظ بنصف عين ولم يقْوَ على النهوض، فأسكت ساعته ثم أغمض نصف العين، وعاد إلى النوم لانزعاجه من أنّه لم يكمل ساعات النوم الست.
مرّ ربع ساعة قبل أن يستيقظ عدوُّه اللدود محدثًا صخبًا في الغرفة الهادئة برنينه المتتالي دون توقف. وكالعادة بدأت مباراة السادسة والربع صباحًا بين الرنين، الذي يهز صداه أرجاء المكان، وبين محاولة التجاهل دون جدوى والاحتماء بالوسادة فوق الأذن.. حدَّث نفسه: "الموت للهاتف، اللعنة على ألكسندر جراهام بيل".
تنتهي المباراة بفوز ساحق عادة لمنبّه التليفون. ألقى لعناتِه على جميع المخترعين بداية من توماس أديسون حتى إيلون ماسك، ودخل إلى المطبخ. طلب من ماكينة القهوة إعداد كوبه المفضّل ريثما يأخذ حمامًا باردًا ويرتدي ملابسه.
Good morning sir, nice coffee
كانت الدقائق الخمس لوقت الحمام الصباحي، التي تبدأ أوتوماتيكيا مع شعور الفوهة المعدنيّة بالجسد تحتها دون ملابس، قد شارفت على الانتهاء، عندما تسللت رسالة ماكينة القهوة إلى مسامعه. سريعًا ارتدى ملابسه وخطف كوب القهوة وانطلق إلى الخارج.
كالعادة حمد الله أن عناء قيادة السيارة قد انتهى قبل عشر سنوات، عندما اتحد العالم للمرة الأولى على قرار صائب بالاستغناء عن جميع السيارات التي تعمل بالوقود، ودخول عصر المركبات الكهربائية ذاتية القيادة.
دقات الساعة تشير إلى السادسة والنصف: "أمامي الآن نصف ساعة كاملة لمعرفة ما دار حول العالم في غيابي".
القوات الروسية على مشارف برلين.. مجلس الأمن يفرض عقوبات جديدة على روسيا.. برميل النفط يقفز إلى 1500 دولار.. أمريكا تدعو دول أوبك + لزيادة الإنتاج.. الصين تعيّن حاكمًا جديدًا لتايوان. الزمالك يظفر بالدوري رقم 15 ومرتضى منصور يعد الجماهير بـ"السادسة الأفريقية".. "يكفي هذا القدر".. حدّث نفسه ثم ألقى نظرة على التاريخ في ساعته: 16 أغسطس/آب 2035.
الخبر الذي ينتظره يوميًّا لم يأتِ بعد.. تمر الدقائق صعبة إلى أن تأتي الثامنة صباحًا.
5 دقائق ملعونة..
توقّفت السيارة في أقرب نقطة من البنك الذي يعمل فيه. صمت هدير المحرِّك أوتوماتيكيا عن العمل وفُتِح الباب.. لا مفر من مواجهة المصير اليومي المحتوم، أو كما يسمّيها هو "الدقائق الخمس الملعونة". السير تحت لهيب الشمس في درجة حرارة تلامس الستين من باب العربة إلى باب البنك.
يتساءل دومًا في إنكار: لماذا يزداد من حولي البُدَناء؟
في الصيف تُهادينا الشمس بقطع طازجة من الجحيم، وشتاءً لا تكون إلا شلالات المطر والأنواء المرعبة. عالم عجيب!
"على كلٍ أنا أتضوّر جوعًا وأريد إسكات ضجيج معدتي".
دلف إلى السوبر ماركت لشراء ساندوتش جُبن. تعجّب العامل وأشار إلى الساعة: إنها السابعة صباحًا يا سيدي، لا بيع ولا شراء قبل إعلان البنك الفيدرالي الأمريكي عن سعر الفائدة الجديد.
منذ وقت طويل باتت أسعار الصرف مربوطة يوميا بالفائدة، التي يحددها البنك الأمريكي، هذا في غالبية دول الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، أما دول الشرق كروسيا والصين وبعض الدول الآسيوية فباتت تتعامل باليوان كعملة موحدة منذ زمن، وتتبع كليًّا سعر الصرف الذي تحدده بكين.
خائبًا أسرع الخطى إلى مكتبه في البنك، وخلع جاكيت بذلته وفتح صدره للمكيف مباشرة لتبريد جسمه، الذي سلخته الشمس. وما إن انتهى من طقسه الصباحي جلس إلى مكتبه في انتظار الخبر: الفيدرالي الأمريكي يرفع سعر الفائدة 900 نقطة أساس.
على شاشات البنك العملاقة تدور الأرقام وتتبدل في مشهد سينمائي معتاد صبيحة كل يوم. تتحلق حولها أعين الموظفين والعملاء.. ثوانٍ ويعرف الواقفون والقاعدون ما لهم وما عليهم اليوم، والكل يضع يده على قلبه. هدأت ماكينة الأرقام، وها هي أسعار الصرف معروفة للجميع.
بصق ثلاثة عملاء على الأرض في حنق. وأشاح أربعة موظفين بأيديهم في غضب. وصاح رجل مُسنٌّ: اللعنة على الحرب، اللعنة على الحرب.
"الآن أستطيع أن آكل ما أشاء".
أمسك بالهاتف وطلب فطوره وأبلغه النادل أن الفاتورة ارتفعت 200 جنيه مقارنة بأسعار أمس. لم يُعِر الكلام اهتمامًا كبيرًا -كان قد اعتاد هذا السخف منذ وقت طويل- أومأ برأسه موافقًا وشرع في الْتهام وجبته.
طلب شايًا وأخطره النادل بأن سعر الكوب ارتفع 30 جنيهًا، أومأ بالموافقة أيضًا، ثم انهمك في عمل متواصل حتى الثانية عشرة والنصف. نصف الساعة يتبقى على "الساعة الملعونة". جَلَبة كبيرة في الصالة الرئيسية، تتعالى الأصوات ويرتفع أنين مفاتيح اللوحات من الضغط المتزايد في توتر وقلق، ويتدافع العملاء نحو الشبابيك ويبدأ بعضهم في دفع رِشى لشراء دور متقدم في الطابور.
الإذاعة الداخلية في البنك تعلن: السادة الموظفون، السادة العملاء، سوف تنقطع الكهرباء من الواحدة ظهرا ولمدة ساعة، نظرًا لتخفيف الأحمال وتوفيرًا للطاقة، نشكركم على تفهمكم وحسن تعاونكم، ويمكنكم في هذه الساعة الانتظار في حمام السباحة بالطابق الأرضي.
لم يتحرّك من مكانه خلال ساعة الراحة أو "العذاب" كما يسميها هو. دقّت الساعة الثانية، شرع في استكمال ما كان قد بدأه من عمل، وعند الرابعة انتهى يوم البنك.
انطلق إلى مطعم قريب وطلب غداءً. وما أن فرغ منه حتى صدمته الفاتورة: زيادة 2000 جنيه على الوجبة. هاج في وجه مدير المطعم: "تاجر حرب. أنا مصرفي وأعرف جيدًا أنك لص.. اللعنة عليك وعلى الحرب".
خرج إلى الشارع وكان دوام الشمس على وشك الانتهاء، وهي توقّع "انصراف" وتتجه نحو الغروب، لكن لهيبها لا يزال يشعل رأسه وجسده، ووجد نفسه أعلى جسر يعتلي النهر، فخلع ملابسه وقفز في المياه الدافئة دون تفكير، وما هي إلا دقائق حتى وجد أيادي غليظة تُغرس بين أضلاعه وترفعه إلى قارب تعلوه راية الشرطة، وتسأله في عنف: "لماذا تحاول الانتحار؟"، لم يسمح له المحقق بالرد وأكمل في غضب غير مفهوم: "عليك سداد غرامة نظير محاولتك الانتحار".
أجاب موافقًا عن غير اقتناع للخلاص من هذه السخافة، فقال له المحقق إنّه رهن الاحتجاز لدى مركز الشرطة حتى الثامنة من صباح اليوم التالي لأن عليه تسديد الغرامة وفق أسعار الفائدة الجديدة: "الشمس غربت وانتهى التعامل بالسعر القديم كما ترى"!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة