يُجمع العديد من الخبراء على أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت فعلا، وأننا الآن في خضم اندفاعاتها الأولى.
ولأننا في عصر تغلب فيه القوة الناعمة على الخشنة، فإن ميدان هذه الحرب سيكون الاقتصاد بكل وسائله وأدواته.
لقد بدأت أولى بواكير هذه المرحلة بإعادة تشكيل التحالفات الدولية في العالم الغربي ذاته، وكانت أولى الخطوات "البريكست"، الذي أُطلق على عملية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وحينها نشر كاتب هذه السطور مقالا في بوابة "العين" عنوانه "بريطانيا تخرج من الجغرافيا لتصنع التاريخ" في يوم الاثنين 7 أكتوبر 2019، جاء فيه: الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، خروج من جغرافيا أوروبا المثقلة بالمشاكل والأزمات، والتي تلبد سماء مستقبلها غيوما كثيفة، تصعب معها الرؤية الواضحة، وفي الوقت نفسه دخولا في صناعة تاريخ جديد للحضارة الغربية، يجمع الدول التي يديرها الأنجلوساكسون في أمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا في كيان اقتصادي واحد، وقوة استراتيجية واحدة، تمثل القلب الجديد الذي يعيد ضخ دماء جديدة للحضارة الغربية تُبقيها على قيد الحياة، وفي موقع الصدارة لقرن جديد.
لذلك لا بد من وضع الصورة كاملة أمام أعيننا لتتضح الرؤية، هذه الصورة تشتمل على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مواجهة أمريكا بصورة شرسة جدا للصين، الخلاف العنيف بين بريطانيا وأمريكا من جانب، وروسيا من جانب آخر.
وبعد ذلك بعامين، وفي سبتمبر 2021، تم الإعلان عن إنشاء تحالف استراتيجي يجمع الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأستراليا، وأطلق عليه "أوكوس" AUUKUS اختصارا لأسماء الدول الثلاث المشاركة، ويهدف هذا التحالف إلى تسهيل تبادل المعلومات، والابتكارات التكنولوجية في مجال الذكاء الاصطناعي والأنظمة السيبرانية وتكنولوجيا الغواصات، وكذلك ظهور إمكانية توجيه ضربات من مسافات بعيدة، ونقل تكنولوجيا بناء الغواصات النووية إلى أستراليا.
وأعتبر هذا التحالف الجديد بداية للمواجهة المباشرة بين الغرب، وعلى رأسه أمريكا وبريطانيا من جانب، والصين على الجانب الآخر، وردًّا على ذلك التحالف قامت الصين ببناء قاعدة في "جزر سليمان" في مارس 2022، وبدأت في توثيق العلاقات مع "جزر فيجي"، وهما يقعان في جنوب المحيط الهادي، إلى الشرق من أستراليا.
ثم جاءت الحرب الأوكرانية، وتحققت المواجهة المباشرة بين الغرب مجتمِعًا في حلف الناتو وبين روسيا، واشتعلت الحرب الاقتصادية بصورة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وكان الهدف منها تدمير الاقتصاد الروسي، ولكن نتيجة للتخطيط الاستراتيجي للقيادة الروسية كانت آثار تلك الحرب الاقتصادية أكثر تدميرًا في اقتصادات أوروبا وأمريكا، ما قاد إلى سقوط حكومات، وتهديد أخرى بالمصير نفسه في أول انتخابات قادمة، وبدأت المجتمعات الأوروبية تعرف حقيقة معنى "اقتصاد الحرب"، من حيث تقنين استهلاك السلع، وانقطاع الكهرباء، والعودة للفحم، والأخشاب، وسوف يحمل الشتاء القادم أزماتٍ اقتصادية واجتماعية لم تعرفها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وحيث لم تفلح الأزمة الأوكرانية في فك الارتباط بين الصين وروسيا، فكان الخيار الاستراتيجي هو إشعال أزمة تايوان، لدفع الصين للمواجهة العسكرية، أو التورط في "غزو تايوان"، ومن ثم الدخول في حالة اقتصاد حرب، وبذلك يتم إرباك الخطط الصينية في التفوق الاقتصادي على الولايات المتحدة.
وهناك في الجَعْبة الغربية الكثير الذي سيخرج في قادم الأيام.
الحرب العالمية الثالثة بدأت بالفعل بين الشرق، ممثلا في الصين وروسيا، وبين الغرب ممثلا في أمريكا ومَن سيكمل المسار معها، خصوصا بريطانيا وكندا وأستراليا، لأن بقية أوروبا إما ستشهد تغيير حكومات في الفترة القادمة، وإما ستُضطر حكوماتها تحت الضغوط الشعبية للتراجع والاهتمام بالأوضاع الاقتصادية لشعوبها.
هذه الحرب تدور في ميدان الاقتصاد بأدوات مختلفة، إما عسكرية، وإما من خلال الأوبئة والفيروسات، أو من خلال افتعال الأزمات وفرض العقوبات والمقاطعة الاقتصادية، وما على شعوبنا في العالم العربي إلا أن تدرك أن الاقتصاد هو الميدان الحقيقي للمواجهة في الزمن القادم، وأن القوة العسكرية دون قوة اقتصادية كافية لن تكون قادرة على ضمان الأمن القومي للدول والمجتمعات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة