"التاريخ من أسفل".. إعادة الاعتبار للمهمشين
الكتاب يعد أول محاولة من نوعها في المكتبة العربية لتتبع المفهوم وتجلياته وتقاطعاته مع مفاهيم أخرى شاعت خلال الـ30 عاما الأخيرة.
في ثمانينيات القرن الماضي دخل مفهوم "التاريخ من أسفل" حقل الدراسات التاريخية، وتركز اهتمام المؤرخين الجدد على نماذج من الناس العادية لكتابة تاريخهم.
وفي عالمنا العربي ظل المصطلح غائبا عما ينتج اليوم من دراسات لعدم إدراك طبيعة المفهوم، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الذي أصدرته دار رؤية بالقاهرة للباحثين خالد اليعقوبي وخالد طحطح تحت عنوان "التاريخ من أسفل".
الكتاب الصادر في 248 صفحة من القطع المتوسط يعد أول محاولة من نوعها في المكتبة العربية لتتبع المفهوم وتجلياته وتقاطعاته مع مفاهيم أخرى شاعت خلال الـ30 عاما الأخيرة، ومنها "المايكرو تاريخ" في بريطانيا، و"التاريخ اليومي" في ألمانيا، و"تاريخ دراسات التابع" في الهند، حيث انتقل الاهتمام من تاريخ الكيانات والمؤسسات الكبرى إلى تاريخ الأفراد العاديين، وتم الاستفادة من تقاطعات علوم ومناهج بحثية أخرى جمعت تيارات النقد الثقافي والأنثروبولوجيا التاريخية الجديدة.
ويظهر الكتاب حجم الفائدة التي نتجت عن استعمال مفهوم التاريخ من أسفل في تطوير دراسات التاريخ الاجتماعي، استنادا لطفرات منهجية تحققت بفضل الاستفادة من "دراسات التابع" ومدرسة الحوليات الفرنسية، التي اهتمت بدراسة الكتل التي ظلت على هامش السلطة وبدأت بدراسة البنى الاجتماعية والاقتصادية متجاوزة التاريخ الوقائعي لصالح ظهور الدراسات النوعية حول تاريخ المرأة وتاريخ الأفكار.
ويفضل المؤلفان التركيز على تأصيل مصطلح المهمش أو الهامش وجذره اللغوي، انطلاقا لامتداداته والكيفية التي اتخذ معها بعدا اصطلاحيا منذ سنة 1700 حيث ظهرت حكايات وقصص قدمها المشاركون مع القوات البريطانية في الحروب التي خاضتها في مستعمراتها.
وظلت الأحداث التاريخية الكبرى حتى منتصف القرن الـ20 تظهر العديد من المواد التاريخية التي يمكن تصنيفها في إطار الرؤى الصادرة عن المهمشين أو الهامش وهي التي نتجت عن تناول تلك الأحداث الكبرى من منظور الجنود أو العمال وليس من منظور القادة، وتم التركيز على الكتابات التي خلفتها تلك المرحلة على تفاصيل الحياة اليومية.
وكان لمساهمات المفكر الإيطالي الماركسي البارز أنطونيو جرامشي (1891 -1937) دورها في تغيير النظرة إلى تلك الكتابات والانتقال بها إلى مستوى آخر شمل مفهوم المهمش فيه كل فرد أو جماعة تعمل تحت هيمنة وسيطرة طبقة تحرمهم من الحق والمشاركة في التعبير عن حضورهم في صنع التاريخ، ويعد جرامشي مؤسس مفهوم "الهيمنة على الثقافة كوسيلة للإبقاء على الحكم في مجتمع رأسمالي".
وارتبط تطوير دراسات التاريخ من أسفل على تطوير نظرية جرامشي الشهيرة عن الهيمنة والتبعية، حيث إن الهيمنة بالمعنى الذي أراده تتجاوز مفهوم القوة والسيطرة الاقتصادية أو العسكرية، وإنما امتدت لتشمل الأدوات المعرفية والثقافية.
ويشير المؤلفان إلى أنه ورغم غنى المساهمة التي قدمها جرامشي لكنها كانت جزءا من أيديولوجيته الماركسية وتعبيرا عنها حتى سنوات الثمانينيات التي ظهرت خلالها "دراسات التابع" عند تناول تاريخ الهند من زاوية جديدة أبرزت الدور الحقيقي للمهمشين ودورهم في صناعة التاريخ.
واستفادت هذه الدراسات من الإرث الماركسي ومن دراسات الفلسطيني إدوارد سعيد والمصري سمير أمين وهومي بابا وهو منظر إنجليزي من أصول هندية من نقاد مدرسة ما بعد الاستعمار وأصحاب دراسات النقد الثقافي.
ويؤرخ الكتاب لعام 1982 كنقطة فارقة في تاريخ الدراسات التاريخية ارتبطت بظهور مقال المؤرخ الهندي راناجيت جوها، اعتبر بمثابة المانفيستو الأول لدراسات "التاريخ من أسفل"، وظهرت كلمة مهمش كمرادف لكلمة شعب، وبدأت تدريجيا أصداء تلك المدرسة في كتابات خارج الهند وبريطانيا وأمريكا وأبدى التاريخ من أسفل طموحا كبيرا لكتابة تاريخ الناس العاديين.
وعلى صعيد الدراسات العربية يرصد المؤلفان سعي بعض المفكرين لاستعمال المفهوم وتعميق الوعي بما يطرحه من إشكاليات منهجية بأمل السعي لتصحيح السرد المسطح الذي دونه المستعمرون لتاريخ مجتمعاتنا شديدة التعقيد يحررها من الارتباط بتاريخ الاستعمار سواء في الرصد أو التحليل.
ويدرس الكتاب الدراسات التي قدمها أستاذ التاريخ الإسلامي في مصر الدكتور محمود إسماعيل، الذي أنجز مجموعة من الدراسات تقارب ما سعى إليه مؤرخو التاريخ من أسفل قبل سنوات من ظهور هذا المفهوم والعمل به.
ومحمود إسماعيل (21 أبريل 1940) مؤرخ ومفكر مصري متخصص في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وهو صاحب المشروع الفكري الكبير - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، ورصد في كتاباته جوانب مختلفة للتراث الإسلامي واعتبرها البعض بمثابة "مانيفستو" لتحرير الفكر الإسلامي من تأثير الاستشراق.
وحسب الكتاب تقدم مقاربات "التاريخ من أسفل" منظورا مختلفا للتاريخ غرضها فهم حياة البسطاء الذين عاشوا في الماضي ونقل تجاربهم الخاصة، وعلى النقيض تماما من مدرسة التاريخ الوضعي التي ركزت على الأحداث الكبرى وسير القادة والسياسيين العظماء.
aXA6IDE4LjExOC4xMTkuNzcg جزيرة ام اند امز