الأمم تنهض وتتقدم في مضمار الحضارة البشرية لأن عقولها وقلوبها متعلقة بالمستقبل، مشدودة إليه. تخطط للزمن المقبل لتتخلص فيه من مشكلات اليوم، وترسبات الأمس، ولتوجد حياة جديدة تحقق السعادة لأفرادها، والسلام والأمان والاستقرار لمجتمعاتها.
هكذا أدركت جميع الأمم التي استحققت الحياة، وحققت الحضارة على مر التاريخ، والمسلمون لم يكونوا استثناء من ذلك، بل إن سرعة التغيرات في الصدر الأول من التاريخ الإسلامي كانت مدهشة، فقد تكيف المسلمون الأوائل مع الواقع الجديد، وطوروا له وسائل وأساليب جديدة، بل إن كبار الفقهاء كانوا يغيرون فقههم إذا تغيرت البيئة والظروف الاجتماعية؛ مثلما حدث مع الإمام الشافعي رضي الله عنه؛ حين غير فقهه عندما انتقل من العراق لمصر، والكلمة الخالدة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "علموا أولادكم غير ما تعلمتم لأنهم خُلِقوا لزمان غير زمانكم".
لكن للأسف حدث العكس في القرون الأخيرة، وانقلبت رؤوس المسلمين فصارت عيونهم في مؤخرة رؤوسهم، ينظرون للخلف، ويتخبطون في السير، ويتيهون في صحراء الضلال والتخلف، لأنهم ظنوا أن المستقبل في الماضي، وأن حركة التاريخ معكوسة، وأن السابق أفضل من اللاحق، وأن المستقبل شرٌّ مستطيرٌ، وما على المسلم إلا أن يسعى جاهداً لكي يسافر في الزمن إلى الوراء؛ لعله يعيش في واحدة من تلك اللحظات التاريخية الناصعة الجميلة التي دأب إمام المسجد ومدرس التربية الإسلامية والخطباء والدعاة والوعاظ على تصويرها بأنها الجنة الموعودة.
كل هؤلاء المتحكمين في الخطاب الإسلامي يصورون التاريخ للبسطاء على أنه هو الإسلام الصحيح، هو التقوى والإيمان، هو الحياة الطيبة والجنة الموعودة، أما زماننا هذا فلعنة من لعنات الزمان علينا لأننا نعيش مع العصاة والفاسقين.
الخطاب الإسلامي في مجمله خطاب تاريخي، بحيث يصعب أن تجد خطبة جمعة واحدة في طول العالم الإسلامي وعرضه لا يحتل التاريخ أكثر من نصفها، إن لم يكن جميعها، لقد تحول الدين الإسلامي على مستوى الخطاب الوعظي والتعليم والإعلام إلى ظاهرة تاريخية، فتربت أجيال على أن الإسلام تاريخ، والتقوى تاريخ، والبطولة تاريخ، والحضارة الإسلامية تاريخ، والعزة تاريخ، والنصر تاريخ.
وفي المقابل، فإن واقعنا ليس سوى مؤشر لبؤسنا، ولعنات الله علينا لكثرة معاصينا وبعدنا عن الدين، أما المستقبل فغائب بالكلية، بل إنه مجال للفتن والانحراف، وظهور المسيخ الدجال، ونذير من نذر الشؤم على الخراب والدمار والبعد عن الدين، والكفر والفتن التي هي مثل قطع الليل المظلم، نحن ظاهرة تاريخية، ثم بعد ذلك نلعن التاريخ، ونرفع أصواتنا بالقول إن التاريخ يعيد نفسه!!!
التاريخ عند جميع شعوب الأرض يتحرك ولا يقف، وعندنا يعيد نفسه، لأنه مفلس ولا توجد لديه حوادث جديدة، حجة يرددها الجميع من ينتقدون الخطاب الإسلامي، ومن يسوقونه ويبيعونه في بازاراتهم المتعددة، والحقيقة أن التاريخ هو الزمن، والزمن متحرك بحركة الكواكب والنجوم، ومن سنة الله في خلقه أنه لا يعيد نفسه إطلاقا، ولا تتكرر حوادثه، ولا ظواهره حتى وإن تشابهت في بعض جوانبها، فكل زلزال وفيضان مختلف عن سابقه، ولا يحدث التكرار في الطبيعة، ولا يحدث في المجتمع الإنساني.
الحقيقة، أننا نعيد تمثيل حوادث التاريخ وظواهره وأزماته وكوارثه على مسرح الحياة المعاصرة، لأننا نعشق التاريخ ونذوب فيه شوقاً إلى الحد أننا نعيد إحياء مآسيه وكوارثه بصورة دائمة مستمرة، هكذا تعلمنا أن التاريخ هو الجنة الموعودة، فمن لم يستطع العيش فيها فليمثلها، لذلك كلنا نؤدي أدواراً تاريخية على مسرح الحياة، بحيث إننا تركنا واقعنا وحاضرنا وغفلنا عن مستقبلنا، وصرنا ممثلين محترفين للقيام بأدوار تاريخية لما نظن أنه العصر الذهبي للإسلام والمسلمين.
إعادة تمثيل التاريخ صارت منهجاً حياتياً للمسلمين، ومنهجاً تعليمياً في مدارسهم وجامعاتهم، سواء التاريخ القريب أو البعيد، ولننظر إلى المعارك الثقافية منذ كتابي الأدب الجاهلي والشعر الجاهلي للدكتور طه حسين رحمة الله عليه سنة 1925 حتى معارك يوسف زيدان مع كل طواحين الهواء، كلها معارك مع المتخيل من التاريخ، معارك على مسرح إعادة تمثيل التاريخ، بينما الأمم الأخرى تخوض معاركها الحقيقية مع المستقبل، مع غزو الفضاء، وعالم الجينات، والذكاء الصناعي، وأجيال التكنولوجيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة