قبل إقالة ترامب لـ«جيروم باول».. ماذا يخبرنا التاريخ عن المخاطر؟

ترامب يشعل معركة غير مسبوقة مع الاحتياطي الفيدرالي! يضغط بقوة لخفض الفائدة ويُلمّح علناً لإقالة باول. لكن هل يملك الصلاحية؟ وهل ستتحول المواجهة لأزمة تهز الأسواق العالمية؟
وأثار الرئيس دونالد ترامب قلق الأسواق ودفع الدولار للانخفاض بنحو 1% لبعض الوقت أمس، بعد أن صعّد من حملته ضد رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول. وذكرت وسائل إعلام أمريكية أن الرئيس الأمريكي لوّح في وقت سابق هذا الأسبوع برسالة إقالة باول، وسأل المشرعين الذين اجتمع بهم عما إذا كان يجب عليه إرسالها.
ومنذ أشهر يشن ترامب حملة صريحة ضد باول، إذ يضغط عليه لخفض أسعار الفائدة ويلمح إلى أنه منفتح على إقالة باول إذا لم يخضع رئيس المجلس لأوامره.
ولكن إلى أين وصلت الأزمة: "لا نخطط لفعل أي شيء"، وفق ما قاله ترامب الليلة الماضية. وأضاف: "لا أستبعد أي شيء، لكنني أعتقد أنه من غير المرجح إطلاقا، هذا ما لم يضطر إلى المغادرة بسبب الاحتيال، ومن المحتمل أن هناك احتيالا".
وأمس الأربعاء، أرسل المستثمرون في الولايات المتحدة، تحذيرًا بأن استقلالية البنوك المركزية مهمة لـ«وول ستريت»، وذلك بعد أن أدت التقارير التي أفادت بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان يفكر مجددًا في إقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، إلى ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل وانخفاض قيمة الدولار.
وتتوقع الأسواق ارتفاع التضخم إذا ما خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الجديد أسعار الفائدة تماشيًا مع رغبات ترامب.
وبحسب تقرير لـ«وول ستريت جورنال»، يرى بعض المحللين أن ذلك سيكون له عواقب عالمية، لأن سندات الخزانة والدولار يدعمان الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم.
وصرح ترامب للصحفيين يوم الأربعاء في البيت الأبيض بأنه "من غير المرجح للغاية" أن يقيل باول، مضيفًا، "إلا إذا اضطر إلى المغادرة بتهمة الاحتيال".
وألمح ترامب في هذا الشأن، إلى جهود مستشاري البيت الأبيض لاستهداف تجديدات في عقارات تابعة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي كلفت أكثر من المخطط لها، ما قد يدفع لاتهام باول بتهمة الاحتيال التي أشار لها ترامب.
هذه المواجهة بين ترامب ورئيس البنك المركزي الأمريكي، تعيد للأذهان حالات سابقة شهدت توترات بين رؤساء حكومات ومحافظي بنوك مركزية.
ويقدم هذا التقرير من وول ستريت، أمثلة سابقة على التوتر بين رؤساء الحكومات ومحافظي البنوك المركزية، هذه الأمثلة تقدم بدورها أدلة على كيفية تطور المواجهة بين ترامب وباول.
وعادةً ما يُريد السياسيون أسعار فائدة أقل، مُراعين تكاليف اقتراض المستهلكين والشركات، ويتعين على محافظي البنوك المركزية تعزيز استقرار الأسعار.
وقال مارك سبيندل، مدير استثمار شارك في تأليف كتاب عن تاريخ استقلال الاحتياطي الفيدرالي، "إن الضغط السياسي، وفي هذه الحالة، الضغط الرئاسي، يزيد من خطر حدوث موجة تضخمية حادة".
محاولة الحصول على المال ممن لا يستطيع العطاء
يعود المفهوم الحديث لاستقلالية الاحتياطي الفيدرالي إلى اتفاقية الخزانة مع الاحتياطي الفيدرالي عام ١٩٥١، التي منحت البنك المركزي حرية أكبر في تحديد أسعار الفائدة بما يراه مناسبًا.
ومنذ ذلك الحين، تمتع الاحتياطي الفيدرالي باستقلالية كبيرة، على الرغم من أنه لم يكن بمنأى عن الضغوط السياسية.
وفي حالة سابقة، حثّ الرئيس الأمريكي السابق ليندون جونسون، رئيس الاحتياطي الفيدرالي ويليام ماكشيسني مارتن الابن، على إبقاء أسعار الفائدة منخفضة بينما يواصل تنفيذ أجندته الشاملة للإنفاق الاجتماعي.
وفي اجتماع عُقد في أكتوبر/تشرين الأول 1965، استخدم جونسون تعبيره الشهير واصفًا كيف أن زيادة أسعار الفائدة "ستكون بمثابة استخراج الدم من الحجر، بمعنى محاولة الحصول على المال من جهة لا تملك العطاء، في إشارة لاستهداف الطبقة العاملة الأمريكية لمصلحة وول ستريت"، كما ذكر بول فولكر، مساعد وزير الخزانة آنذاك، في مذكراته.
وعندما أدلى مارتن بصوته الحاسم لرفع أسعار الفائدة بعد شهرين، حذّر زملاءه من أنهم يخاطرون برد فعل عنيف من جونسون.
واستُدعي مارتن إلى مزرعة جونسون في تكساس بعد أيام، حيث ورد أن الرئيس صرخ في وجهه، وكانت هذه من أبرز حالات ممارسة الضغط السياسي على المسئول عن البنك الاحتياطي الفيدرالي في التاريخ الأمريكي.
بيرنز ضد نيكسون
كان آرثر بيرنز، الرئيس التالي لبنك الاحتياطي الفيدرالي، اقتصاديًا مرموقًا عُرف بجهوده في مكافحة التضخم عندما عيّنه الرئيس السابق ريتشارد نيكسون في هذا المنصب عام 1970.
لكن المؤرخين يقولون إن بيرنز انشغل بشكل مفرط بكسب ود الرئيس، الذي كان يسعى جاهدًا لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة قبل حملة إعادة انتخابه عام 1972، على الرغم من تزايد التضخم.
وكتب باحثون في ورقة بحثية نُشرت عام 2006 في مجلة "المنظورات الاقتصادية"، "تكشف الأدلة المستقاة من تسجيلات نيكسون بوضوح أن الرئيس نيكسون ضغط على بيرنز، بشكل مباشر وغير مباشر، للانخراط في سياسات نقدية توسعية قبل انتخابات عام 1972".
وخرج التضخم عن السيطرة بحلول أواخر سبعينيات القرن الماضي، ويعود ذلك جزئيًا إلى إحجام بيرنز عن رفع أسعار الفائدة في بداية العقد، وفي أعقاب هذه الواقعة، امتنع الرئيس السابق رونالد ريجان وبعض من خلفائه في البيت الأبيض المستقبليين عن انتقاد بنك الاحتياطي الفيدرالي علناً".
استقلال بنك إنجلترا
يشير مراقبو البنوك المركزية إلى استقلال بنك إنجلترا كقصة نجاح في هذا القطاع.
وتأسس البنك عام 1694، وكان ثاني أقدم بنك مركزي في العالم، وله ارتباطات إدارية طويلة الأمد بالملكية ووزارة الخزانة البريطانية، وهي وزارة الاقتصاد والمالية في المملكة المتحدة.
وكتب ميرفن كينغ، محافظ بنك إنجلترا السابق، عام 1017، "أثّرت الانتخابات على طبيعة وتوقيت القرارات المتعلقة بأسعار الفائدة، عندما انضممت إلى بنك إنجلترا ككبير الاقتصاديين عام1991، كان من الواضح أن أسعار الفائدة قابلة للتغيير في أي وقت وأي يوم".
وبحلول أوائل التسعينيات، ازداد تقلب الجنيه الاسترليني، ولم يُجدي التدخل المكثف في سوق العملات نفعًا، وفقدت الحكومة مصداقيتها.
وانخفض سعر الجنيه الاسترليني مقابل الدولار عام 1992، مما أدى إلى اضطراب الاقتصاد.
في محاولة لتحسين ثقة المستثمرين، منحت حكومة حزب العمال البريطانية الجديدة عام 1997 البنك المركزي القدرة على تحديد أسعار الفائدة بشكل مستقل.
وارتفعت الأسهم البريطانية بشكل كبير، وانخفضت عائدات السندات الحكومية في السنوات التالية.
وقال سبيندل، "لقد منحت أسواق الأسهم والسندات ثقةً كبيرةً عندما أزالت ضغط رئيس الوزراء".
التجربة التركية
في مثال آخر، أكثر حداثة سلطت صحيفة وول ستريت الضوء عليه في هذا الشأن، أقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان محافظ البنك المركزي لبلاده في أوائل عام 2021.
وفي الوقت الذي عانى فيه الاقتصاد النامي من شبحَي تباطؤ النمو والتضخم المستمر، أقال أردوغان محافظ البنك المركزي ناجي أغبال بعد أن رفع أغبال أسعار الفائدة لكبح جماح ارتفاع الأسعار.
وزعم أردوغان أن خفض أسعار الفائدة سيقلل التضخم من خلال خفض تكاليف اقتراض الشركات.
وتتناقض هذه الفكرة مع المبادئ الاقتصادية المتعارف عليها، والتي تُشير إلى أن انخفاض أسعار الفائدة يدفع الأسعار إلى الارتفاع من خلال تحفيز النشاط الاقتصادي.
وقال كاسبر بارتولدي، الخبير الاقتصادي الذي عمل في مجال استراتيجيات الدخل الثابت للأسواق الناشئة في بنك كريدي سويس آنذاك، "كانت النتيجة المتوقعة لقرار أردوغان هي تضخم حاد، وفي النهاية، تحول أردوغان نحو سياسة نقدية تقليدية".
وارتفع معدل التضخم في تركيا بأكثر من ثلاثة أضعاف ليصل إلى 72% في عام 2022، وخسرت الليرة حوالي 60% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، مما أدى إلى تفاقم المعاناة الاقتصادية واستياء شعبي.
وخفضت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني تصنيف السندات الحكومية التركية إلى B-1 في عام 22022 قبل أن يُعيّن أردوغان فريقًا اقتصاديًا في عام 2023 يرفع أسعار الفائدة.
الدولار ينخفض بعد مشاورات إقالة جيروم باول
ووفق ما أفادت فايننشال تايمز، انخفض الدولار الأمريكي بشكل حاد يوم أمس الأربعاء، بعد أن سأل دونالد ترامب المشرعين عما إذا كان ينبغي عليه إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول.
وصرح مسؤول في البيت الأبيض لصحيفة فايننشال تايمز بأن ترامب سأل أعضاء الكونغرس الجمهوريين في اجتماع بالمكتب البيضاوي في وقت متأخر من يوم الثلاثاء عما إذا كان ينبغي عليه إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي.
وأضاف المسؤول في البيت الأبيض أن المشرعين أيدوا الفكرة.
ونشرت آنا بولينا لونا، عضوة الكونغرس الجمهورية من فلوريدا، على موقع X مساء الثلاثاء أنها "سمعت" أن باول سيُطرد، وأن إقالته ستكون "وشيكة".
ونفى مسؤول البيت الأبيض صحة التقارير التي تحدثت عن إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي في وقت قريب.
ولكن هذه المزاعم، أدت لانخفاض الدولار بشكل حاد على خلفية تقارير اجتماع الكونغرس يوم الثلاثاء، حيث انخفض بنسبة 0.9% مقابل سلة من العملات المنافسة، وهبطت الأسهم الأمريكية إلى أدنى مستوى لها في أسبوعين.
وأشارت حركة الدولار والأسهم إلى أن المستثمرين يبيعون الأصول الأمريكية - حتى تلك التي تُعتبر عادةً ملاذات آمنة - بسبب التهديد الذي يواجه استقلال الاحتياطي الفيدرالي.
وفي سوق سندات الخزانة الأمريكية، انخفض عائد سندات الخزانة لأجل عامين، والذي يتحرك وفقًا لتوقعات أسعار الفائدة، مع مراهنة المتداولين على أن خليفة باول المحتمل سيخضع للضغوط السياسية ويخفض أسعار الفائدة بوتيرة أسرع من المتوقع في ظل النظام الحالي.
هل يستطيع ترامب إقالة باول ؟
وبرغم ما تردد من مزاعم ترامب ونيته لإقالة باول، تبقى إقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي مسعى معقد قانونيًا في الولايات المتحدة، ولم يُختبر في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، وفق تقرير جديد لنيويورك تايمز.
وذلك لأنه بموجب قانون الاحتياطي الفيدرالي لعام 1913، لا يمكن إقالة الرئيس العامل لبنك الاحتياطي الفيدرالي إلا "بسبب وجيه"، وهو ما يُفسر عادةً على أنه يعني سوء تصرف أو سوء سلوك جسيم.
وسارع خبراء قانونيون إلى تقييم أن القضية التي قد يُحضّرها ترامب لإقالة باول لسبب وجيه، تستند إلى أسباب واهية، ومن المرجح أن تواجه عقبات جسيمة إذا نفّذ ترامب تهديداته.
وقال ليف ميناند، الباحث القانوني في جامعة كولومبيا، "لا أعتقد أن هناك قضية قائمة هنا، لا بد من إثبات سوء سلوك، وسيكون لدى باول العديد من السبل لتحدي الإدارة إذا ما اتخذت إجراءات ضده".
وقال ميناند إنه إذا أقال ترامب، باول، فسيكون من حق رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الحصول على إشعار بالتهم الموجهة إليه، وفرصة لسماع أقواله أمام الرئيس قبل أن يصبح قرار الإقالة رسميًا.
وبعد ذلك، يمكن لـ"باول" اللجوء إلى محكمة المقاطعة الفيدرالية ورفع دعوى قضائية للحصول على أمر قضائي أولي بإعادة تعيينه.
وسيتعين على القاضي تحديد ما إذا كان من المرجح أن يفوز باول في القضية، إما لأن الإجراءات لم تُتبع وفقًا للقانون، أو لوجود أدلة واهية تدعم اتهامات ترامب.
وسبق لـ"باول" أن أشار إلى نيته إكمال فترة ولايته كرئيس لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، مؤكدا أنه لن يتنحى طوعًا.
ولا تنتهي فترة ولايته في مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي حتى مايو/أيار عام 2026، ومن المرجح أن تنتهي القضية أمام المحكمة العليا.
هل ترامب قادر حقا على إقالة باول؟ ربما. إذ إن قانونا ساريا منذ عام 1913 يمنح الرئيس سلطة إقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ولكن فقط "لسبب وجيه" — وما يشكل "سببا وجيها" غير محدد إلى حد كبير.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuODkg جزيرة ام اند امز