في عصر ما قبل الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، كانت الثقافة العربية واضحة المعالم والأسس والمنطلقات.
من السهل فهم واستيعاب الأسس القيمية التي تقوم عليها، وتحديد القيم الكبرى التي تمثل إطاراً عاماً ينظم مكوناتها، ويحدد معالمها، وكان من السهل أيضاً فهم السياقات العامة للثقافات الفرعية في الدول العربية المختلفة، وفي المجتمعات المتنوعة داخل كل دولة، ومن ثم كان من اليسير فهم سلوكيات الإنسان العربي في تلك المجتمعات، بل وتوقع سلوكياته في المواقف المختلفة، مع التأكيد على وجود نسبة ضئيلة من شواذ القاعدة، والاستثناءات في كل زمان ومكان.
كانت تحكم الإنسان العربي منظومة قيم، فتلجمه في أوقات الغضب قيمة اجتماعية مثل قيمة "الخصومة الشريفة"، أو "الخصومة بشرف"، وهي قيمة ترتقي في عقل ذلك الإنسان وقلبه إلى أن تكون دينا، وهي في الحقيقة قيمة صنعها الدين، وهي المعنى الثقافي للحديث النبوي الشريف الذي جعل من صفات المنافق أنه إذا خاصم فجر، ومن ثم فإن المؤمن إذا خاصم يكون خصامه بشرف ونبل.
فعلى سبيل المثال، كانت الخصومة الشريفة هي الإطار العرفي الذي حكم عادة "الثأر" في صعيد مصر لقرون، حيث كان الثأر في الصعيد يأخذ عشرات السنين حتى ينال أهل المقتول من القاتل رغم التجاور في السكن، والزراعة، وكل أبعاد الحياة.. لماذا؟ لأنها كانت خصومة شريفة، وإذا لم يؤخذ الثأر بشرف لا يحتسب ثأرا.. ولكن كيف؟
كان من نواقض الشرف أن تقتل خصمك وهو في عزاء، أو في تشييع جنازة، أو في فرح، أو بصحبة امرأة أو طفل، أو بصحبة ضيف، أو في صحبة أشخاص من غير أقاربه، ولا تقتله من ظهره، ولا بد من المواجهة… إلخ. الشرف في الخصومة حمى هذه المجتمعات من الفوضى، والعنف الموجود حاليا باسم الدين في كل مكان في العالم العربي، عنف بلا شرف، خصومة معدومي الشرف، عديمي الأصل.
فقدت مجتمعاتنا الخصومة الشريفة، وفقدت معنى الشرف والمروءة، تم ذلك باسم الدين، والدفاع عنه، والوطنية، والديمقراطية، والحرية، والكرامة، وكل القيم النبيلة، فقد تحولت القيم السامية إلى مبرر انتهازي للفجور في الخصومة، أصبحت كل القيم النبيلة أساس تُبنى عليه مجتمعات من المنافقين، من أراذل البشر خُلقا، وأسوئهم طباعا، فتبرير الأعمال الانتحارية حتى ضد الأعداء ليس من الشرف في الخصومة، أو النبل في العداء، التفجيرات العشوائية لا تمت لشرف الخصومة، أو نبل الغاية بصلة.
انعدام الشرف في الخصومة أصبح كارثة تهدد المجتمعات العربية، ومعدومو الشرف الذين ينخرطون في هذه الصراعات، والخصومات لا يدركون أنهم يدمرون ثقافتهم ومجتمعاتهم والأجيال القادمة، التي لن تعرف حدودا، ولن ترى للقيم معنى، لأن التربية على القيم تتم بالمعايشة والمشاهدة والملاحظة، وليس بالوعظ والتلقين أو بالقراءة أو بأي وسيلة أخرى.
لقد مرت على العرب، خلال العقد الماضي، سلسلة طويلة من الأزمات والصراعات والحروب الأهلية والمواجهات الحادة بين بعض الدول، وشهدت المجتمعات العربية خصومات عديدة؛ يفتقد الكثير منها إلى أبسط معاني الشرف في الخصومة، حيث كانت القيمة الغالبة السائدة المتحكمة هي المثل الشعبي المصري الذي يستخدمه الشطار والناصبون والانتهازيون والفاسدون؛ وهو "اللي تغلب به... العب به"، وهو ترجمة لجوهر فكرة "الغاية تبرر الوسيلة" التي تنسب إلى المفكر السياسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي المتوفى 1527م، في كتابه الشهير "الأمير".
فقد ساعدت الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي على أن يكون انعدام الشرف في الخصومة هو الوسيلة الأسهل للنيل من الخصم، وتشويه صورته، أو إلحاق الهزيمة المعنوية به وبأنصاره، لذلك تم توظيف الكذب على نطاق واسع، واختلاق الأخبار، وتسويقها بصورة محكمة، خصوصا من الجماعات التي توظف الإسلام لتحقيق مصالح وطموحات قياداتها الهزيلة، حتى قيل فيهم إنهم "يكذبون بكل صدق"، كذلك تم التعدي على الهيئات والرموز والطعن في القيادات وتشويه سيرتهم، وإسقاط هيبتهم، وهي وسيلة رئيسية عند تلك التنظيمات الدينية الفاشلة، والدول الداعمة لها من مختلف المذاهب والخلفيات.
من الطبيعي أن يتم استخدام الحجة والبرهان والحقائق لإجهاض حجج الخصم وذرائعه، وإفقاده مبرراته، ومن ثم نزع الشرعية عنه، وإضعافه، ودفع أنصاره إلى التخلي عنه، ومن الطبيعي أن يتم نقد الخصم بقسوة شديدة تلتزم بأدب الحوار من قبل أهل الاختصاص، ولكن ليس من الطبيعي أن تتحول الخصومة إلى كذب وافتراء ونشر شائعات، وطعن ولعن وسباب وبذاءة من قبل مأجورين غوغاء من "المؤلفة جيوبهم" لا يدافعون عن وطن ولا عن قيمة أو فكرة.
ونحن نوشك على أن ننهي عقدا كاملا من الخريف العربي المشؤوم، ومع بداية تخلي الدول التي وظفت هذه التنظيمات الدينية، والجماعات المنتسبة للإسلام لتحقيق مصالح جيواستراتيجية، أو مطامع اقتصادية، وسعيها للتوبة والرجوع إلى الحالة الطبيعية -السابقة على اندلاع فوضى الخريف العربي-. مع وضوح نهاية ذلك الخريف المشؤوم، وتوبة مموليه وداعميه ورعاته يمكن مراجعة تلك الخصومات التي انتهت، أو توشك على الانتهاء، ووضعها على ميزان الشرف العربي الأصيل الموجود في جميع المجتمعات العربية، لتحديد مَن التزم بمبادئ ومعايير الخصومة الشريفة؟ ومَن تخلى عن شرف الخصومة لتحقيق كسب سريع لا يستحقه؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة