يقول الفيلسوف والأديب الفرنسي الشهير دينس ديدرو 1713-1784 وأحد قادة حركة التنوير في العالم.
"عودة شعب مستنير إلى البربرية أسهل بكثير من أن يتقدم شعب بربري خطوة واحدة نحو الحضارة".
هنا مع هجوم المئات من متطرفي اليمين على الكونجرس الأمريكي، نستعيد هذه المقولة بطريقة مأساوية، وقد ارتدى المهاجمون أنواع الرموز العنصرية تخلفًا في التاريخ مع أعلامها العنصرية التي ترفرف بالكراهية والحقد لكل ما هو مستنير، وتكشف أن الحفاظ على احترام إنسانية البشر والديمقراطية التي وصلت إليها شهدت في هذا اليوم انتكاسة كبيرة، وكأن مسار التاريخ خالٍ من أي محتوى إنساني، لم يصدق العالم حتى في أجزائه المتخلفة بسبب الغرب ما رآه بين جدران الكونجرس والذي اهتزت له حتى اللوحات الإنسانية للقرن الثامن عشر.
هل كانت الاستنارة مجرد قشرة خارجية لا أكثر، ودروس الاستنارة التي لا يكف الغرب عن ترديدها ليل نهار مجرد أوهام وأصباغ لاصقة بالجلد ليس إلا؟
ما الفرق في الأفعال التي اقترفها مقتحمو الكونجرس من تخريب أثاثه وسرقة بعضها عمّا قام به بعض العراقيين في صبيحة التاسع من أبريل في 2003 من نهب وسلب الممتلكات العامة والبنوك وحرق المكتبات؟ هل كانت أفكار ستالين وماو تسي تونغ وصدام حسين تترسب في ذهن ترامب الذي لا يرى سوى شخصه في الحكم؟
كبار الكتّاب الرؤيون لم يتمكنوا من التنبؤ بما حدث، حتى رجال الشرطة والأمن المحيط بمبنى الكونجرس لم يتوقعوا ما فعله المتظاهرون الهائجون، المتوجهون نحو مبنى الكونجرس، رمز أقدم الديمقراطيات في العالم.
شاشات التلفزيون تنقل لنا ملحمة مجنونة من مكان الحدث، وهؤلاء المتطرفون يصرخون باسم إمبراطورهم ترامب، الذي لم يتمكن من تهدئتهم؛ لأن الجماهير الهائجة تنسى في لحظات الهياج قادتها ومنظريها، لتذهب إلى أبعد مما هو مطلوب منها. أربعة قتلى كان من الممكن أن يزداد عددهم في لحظة انفلات العقل، ولكان من الممكن أن تقع مجزرة دموية رهيبة بكل سهولة.
هل يمكن لنا أن نتحدث عن "عولمة العنف" التي بشر بها المنظرون والفلاسفة منذ الحرب الأولى، ولم يعد اللاّمتوقع مفهومًا غريبًا كما كان منذ مئة عام رغم ابتكارات الأسلحة والتكنولوجيا؛ حيث كشفت المظاهرات "الترامبية" حقدها على الاعلام، فقاموا بتهشيم الكاميرات ومعدات التصوير باعتبارها أدوات تنقل صورة توحشهم إلى الآخرين، إنهم يريدون أن ينفذوا أعمالهم الوحشية والإرهابية كما وصفها بعض الأمريكيين بعيدًا عن الأعين، هناك في الخفاء، بين جدران الكونجرس، في عرين الديمقراطية. لكن مشاهد البربرية وطقوسها من رموز وأعلام وإشارات وأيقونات متطرفة وصلت إلى جميع البيوت عبر الشاسات، مما أيقظت الإحساس بالاستياء والقرف والتذمر.
في زمن فولتير كانت الساحات العامة هي المسرح، أما مسرح اليوم وفي زمن كورونا خاصة فهو شاشات التلفزيون والموبايل المريحة.
هل نشهد الاختلال بين الإنسان والتاريخ عن طريق الصور التي تكشف هذا الجموح المغطى بالعنف؟
تكشف لنا المظاهرات داخل الكونجرس أن العنف الأيديولوجي الذي تتصف به أزمة العالم المعاصر يمكن أن يحدث في أي مكان من العالم. نحن خرجنا من قرن شرس امتاز بالحروب إلى قرن مجهول، ويمكن أن يبدد آمال البشرية بزوال البربرية والتوحّش من العقول.
المجموعات المسلحة ذات الأيديولوجيا اليمينية النائمة عادت إلى الاستيقاظ من سباتها وأصبحت جزءا من المشهد السياسي الأمريكي، بل وجدت لها قائدًا في الأحداث الأخيرة، فهي لا تعترف بالدولة ومبادئها في تسيير المجتمع، بل تعتبر قوات الأمن عملاء حكومة استبدادية، فيما تحضر مجموعات أخرى لثورة وطنية أو حرب عرقية، ويؤيد أفرادها نظريات تفوق العرق الأبيض، وبعضهم لديه ارتباطات بحركات النازيين الجدد. هذه حقيقة لا يمكن نكرانها من خلال الأحداث، ولعلنا نتذكر إلقاء القبض على 13 رجلا كانوا يخططون لخطف حاكمة ميشيجان وبدء "حرب أهلية"، قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كجيوب مسلحة لليمين المتطرف، والتي شكلت -بحسب الشرطة الفيدرالية- التهديد الإرهابي الأول في عهد ترامب، وظهرت تلك المجموعات بمشاركة مناصريها في تجمع لليمين المتطرف في شارلوتسفيل في فرجينيا عام 2017 في المظاهرات المناهضة للقيود الهادفة لاحتواء فيروس كورونا المستجد. وأكثر هذه الجماعات شهرة هي مجموعة "ثري بيرسنترز" و"أوث كيبرز" و"براود بويز" و"بوغالوس بوا" و"باتريوت براير" التي تنادي بحق امتلاك السلاح والعداء للحكومة والسلطة والأفكار اليسارية،. لذلك فإن إدخال فكرة الحرية إلى التاريخ أصعب في عصرنا الحالي، ما يجعلنا نتذكر قول الروائي الروسي دوستويفسكي بأن "الإنسان لن يتخلى أبدًا عن الألم الحقيقي، أي عن التدمير والفوضى"، أي أن الأرضية خصبة دائمًا لظهور هذه الأفكار المتطرفة، "الأيديولوجيات كالفُطر في الأحراج، لا تتوانى عن البروز عن أول قطرة"، حسب قول الفيلسوف الفرنسي ريمون بودون.
لقد عاش إنسان القرن الحادي والعشرين ظهور الأيديولوجيات ولا يتخيّل أن تنتهي ذات يوم، لأن نبات الفُطر لا يحتاج إلى زراعة أو سقي، فهو يعشعش في عقل الإنسان. ؛ والجماهير الهائجة تبحث عن قوة، عن قائد، عن مُلهم، فوجدته هذه الجماعات، بنكهته الشعبوية الأثيرة، بل هي تريد أن تغطي على صورة أمريكا العلم والابتكارات والبحوث الرائدة في مسيرة البشرية، صورة مشوهة تخترعها الجماعات المتطرفة وتنقلها وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتجعلنا نتحسس مسار التاريخ من جديد، وهي لا تتوقف عن إنتاج الأفكار والرؤى إلى البشرية، وفي دعمها للأنظمة الديكتاتورية ثمن باهظ في مجال الأمن الذي ارتد إليها. وعند عودتنا إلى التاريخ نرى أن الربط بين الأمن وحقوق الإنسان له جذور عميقة في التاريخ، رسّخه خطاب فرانكلين روزفلت في 6 يناير 1941 عندما أعلن مبادئ الحرية الأربعة: حرية التعبير، وحرية العبادة، والتخلص من العوز، والعيش بلا خوف، حتى تحولت إلى مبادئ أساسية في ميثاق الأمم المتحدة بعد سنوات قليلة.
وهذا يجعلنا نعود إلى مقولة ديدرو التي أوردناها في بداية المقال: "عودة شعب مستنير إلى البربرية أسهل بكثير من أن يتقدم شعب بربري خطوة واحدة نحو الحضارة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة