الحوار المُطول الذي أدلى به الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، إلى مجلة «تايم» الأميركية، يظل في حاجة إلى قراءة متعمقة
الحوار المُطول الذي أدلى به الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، إلى مجلة «تايم» الأميركية، يظل في حاجة إلى قراءة متعمقة؛ لأنه يبدو برنامج عمل موسعاً، أكثر منه مجرد حوار مع المجلة السياسية الأشهر في الولايات المتحدة.
إن ما قيل في هذا الحوار عن التعليم في السعودية، كومٌ، وما قيل فيه هو نفسه عن شتى القضايا الأخرى كوم آخر.
وهناك قاسم مشترك أعظم بينه وبين حوار آخر، كان الأمير قد أدلى به إلى محطة «سي بي إس»، منتصف شهر مارس (آذار) الماضي. أما هذا القاسم المشترك الأعظم فهو التعليم. ففي الحوارين يتبين أن قضية التعليم في السعودية قضية تملأ على ولي العهد تفكيره، وتحتفظ عنده باهتمام خاص، يتناسب مع أهميتها بالنسبة لمستقبل البلد كله، وبالنسبة لمستقبل كل مواطن سعودي على حدة.
في حالة حوار المحطة، كان الانشغال بادياً بتنقية التعليم في المدارس وفي الجامعات، مما علق به من شوائب فكر جماعة الإخوان، وكانت النية في إجراء مراجعة شاملة لمقررات الدراسة، معلنة وقوية، وكان العزم على منع كل كتاب يشوبه هذا الفكر، من الوصول إلى مكتبات المدارس والجامعات، عزماً لا فصال فيه ولا مساومة، وكانت الرغبة في سحب كل كتاب من هذه النوعية من الكتب، من أرفف كافة المكتبات التي يمكن أن تصل إليها يد أي طالب، رغبة لا رجوع عنها.
وفيما بعد الحوار بساعات، انتقل هذا كله من مستوى التوجيهات من جانب الأمير، إلى مستوى آخر تنفيذي على يد وزير التعليم الدكتور أحمد العيسى، الذي قال إن رموز الجماعة الإخوانية الذين هربوا من مصر إلى السعودية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، قد تسللوا بطريقة أو بأخرى إلى العملية التعليمية، وتركوا أثراً على المدرسين، والمشرفين، والمسؤولين، وفي المناهج الدراسية نفسها، وأن ذلك كله لا يمكن أن يستمر، إذا كان قد مر في يوم من الأيام.
وهكذا، بدا أن هناك انتباهاً إلى خطورة بقاء المناهج في المدارس والجامعات على حالتها الراهنة، وبدا أن هناك وعياً بأن إصلاح العملية التعليمية له بداية لا بد من أن تكون هي منطلق الخطوات إليه، وأن أفكار التطرف والتشدد لا مكان لها في تعليم يريد الذهاب بأبنائه إلى المستقبل
والأمر في نهضة الأمم لم يعد سراً، إنه معلن على كل ملأ. وكان لي كوان يو، باني سنغافورة الذي حوّلها من منطقة ممتلئة بالمستنقعات، إلى بلد يحظى المواطن فيه بمتوسط دخل هو الأعلى عالمياً، أو من بين الأعلى على الأقل، كان لي كوان يو هو الذي لخص القصة كلها عندما أكد في كل مناسبة، أنه ليس هو الذي بنى البلد، فمَنْ بناها إذنْ؟! كانوا يلاحقونه بالسؤال في كل مرة، وكان هو يقول إن كل ما حدث هو أنه أعاد بناء الإنسان في سنغافورة، من خلال تعليم جيد، وأن هذا الإنسان السنغافوري هو الذي بنى سنغافورة التي نعرفها ونراها هذه الأيام
ومن حوار «سي بي إس»، ثم من حوار «تايم»، يتضح أن حقيقة كهذه حاضرة لدى الحكومة في الرياض، وأنها ليست أبداً غائبة.
فمن حوار «تايم» الذي نشرته «الشرق الأوسط» على صفحتين كاملتين، صباح السبت، نعرف أين بالضبط موقع نظام التعليم السعودي، حين يوضع في مقارنة مع أنظمة التعليم في أنحاء العالم، التي تخرج منها مع نهاية كل عام قائمة معلنة تقول إن هذا النظام من التعليم في موقع متقدم، وإن ذاك في موقع متأخر.
وموقع نظام التعليم في أي بلد، مقارنة بغيره على مستوى الدول، ليس من بين الأسرار، وليس في إمكان أي عاصمة أن تحرك تعليمها بإرادتها، لتبدو على نحو أجمل مما هي عليه، أو لتداري قصوراً في مدارسها وفي جامعاتها. ليس هذا ممكناً؛ لأن قوائم التعليم الأفضل معروفة مصادرها، ويجري الإعلان عنها في توقيتات محددة في كل عام، سلفاً، وهي قوائم تخرج عن معاهد علم موثوق بها، ولا مجال للتشكيك فيها، ولا للطعن في موضوعيتها، ولا للحط من معاييرها.
وإذا ما تعلق الأمر بتعليم المواطن السعودي، الآن، فهو حسبما ورد في حديث تايم، يحتل المرتبة رقم 41 في قائمة أنظمة التعليم على مستوى العالم، فإذا ثار سؤال حول مدى أفضلية مرتبة كهذه، فإن أمامنا أكثر من وسيلة للتعرف على ذلك، غير أن الوسيلة الأضمن في هذا السياق، هي أن نسأل عن اسم الدولة التي يحتل تعليمها المرتبة رقم 40؛ لأن في معرفة اسمها إشارة كافية.
أما هذه الدولة فهي فرنسا. ومعنى هذا أن تعليم الرياض يأتي في الدرجة التالية مباشرة، بعد تعليم باريس، عاصمة النور والجمال، كما كان يحلو لعميد الأدب العربي طه حسين أن يسميها، أو عاصمة الجن والملائكة كما كان يفضل آخرون أن يُطلقوا عليها تمييزاً لها عن سائر عواصم الدنيا.
ورغم أن ولي العهد يقرأ هذا الترتيب لتعليم بلاده قراءة مختلفة، بحيث يرى تعليم بلده إلى جوار تعليم فرنسا، لا وراءه، فإنه يذهب لأبعد من ذلك إلى حد يرى فيه أن ترتيباً متقدماً كهذا لا يتجاوب مع طموحه، ويريد في وقت قريب أن يكون التعليم المتاح لكل مواطن سعودي، من بين أنظمة التعليم العشرين أو الثلاثين الأفضل في القوائم المعتمدة عالمياً.
إن الطموح في مستوى تعليم أفضل، هو طريق إلى مستقبل أرقى، وهو سبيل لا يخيب إلى مكانة أرفع بين الأمم، وهو رهان على حصان رابح.
الطموح في مستوى تعليم أفضل، ثم السعي إلى تحقيقه، وفق رؤية تعرف ماذا تريد وتذهب إليه، هو تأسيس لبديهية تقول إن البلاد لا يبنيها غير أبنائها، وإن أبناءها لن يقوموا بمهمة البناء، ما لم يكونوا مؤهلين لها، وإنهم لن يكونوا مؤهلين إلا إذا كانوا حاصلين على تعليم جيد، ولن يُتاح لهم التعليم الجيد، إلا إذا وضعوا أنفسهم في مقارنة مع أنظمة التعليم في كل بلد من حولهم، فقرروا أن يكونوا في موقع يتقدم في قائمته عاماً بعد عام.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة