كيف يتحول التطرف الفكري إلى إرهاب؟

لماذا يتبنى فرد أو مجموعة منظومة للقيم مخالفة لما هو سائد في المجتمع، وما العوامل التي تدفع هولاء إلى انتهاج سبيل العنف لتحقيقها؟
يبدو أننا في المنطقة العربية بل في العالم ككل سوف نعيش لفترة طويلة قادمة مع ظواهر التطرف والعنف والإرهاب، ومبعث ذلك استمرار أنشطة تنظيمات العنف والإرهاب العابرة للحدود كالقاعدة وداعش وتفرعاتهما المختلفة.
فرغم الهزيمة العسكرية لهذين التنظيمين فى العراق و سوريا، فإن التقارير الاستخباراتية التي أُعلنت في الشهر الماضي تُشير بوضوح إلى أنهما قد نجحا في إعادة تنظيم صفوفهما والعودة لممارسة أنشطتهما الإرهابية والتخريبية.
إضافة إلى العمليات الإرهابية التي اتسمت بالطابع الفردي والمحلي مثل وقائع إطلاق الرصاص العشوائي التي حدثت في الولايات المُتحدة خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب ٢٠١٩، والتي أثارت جدلاً واسعاً بشأن أسبابها ودوافع القائمين بها.
يعود اهتمام الباحثين في الجامعات ومراكز البحوث بموضوعات التطرف والعنف والإرهاب إلى عقد السبعينيات من القرن الماضي. وقد اهتممت بهذا الموضوع مبكراً وصدر لي كتابان باللُغة الإنجليزية، الأول بعنوان "الإسلام والسلطة" في لندن عام 1981، والثاني بعنوان "الإحياء الإسلامي في العالم العربي" في نيويورك عام 1982، واستمرت متابعتي للجديد في هذا الموضوع على مدى السنين التالية.
وبمراجعة الكثير من الإسهامات البحثية، يمكن ملاحظة أهمية التمييز بين مجموعة من المفاهيم مثل التطرف، والتطرف العنيف، والعنف والإرهاب والتعصب، والتشدد، والغلو، فهناك تداخل في المعاني بينها وخلط كبير في استخدامها.
من المهم أيضاً في تحليل سلوك المتطرفين التمييز بين عمليتي التسييس Politicization من ناحية واللجوء إلى أساليب تصادمية وعنيفة، والتي يطلق عليها البعض تعبير "الردكلة" Radicalization.
ومن المهم كذلك أن يستفيد المشتغلون بالتحليل السياسي من نتائج بحوث علم النفس الاجتماعي والسياسي بما يساعد على فهم عملية تكوين "العقل المتطرف"، وكيفية انتقال المتطرف فكرياً إلى انتهاج سلوك العنف والإرهاب.
لا يمكن بالطبع الإحاطة أو محاولة تناول هذه الموضوعات في مقال واحد. لذلك سوف نكتفي هنا بتناول سؤالين يتعلقان بالتحول من التطرف الفكري إلى العنف والإرهاب، والعوامل التي تؤثر على هذا التحول.
السؤال الأول في هذا الصدد هو لماذا يتبنى فرد أو مجموعة من الأفراد منظومة للقيم والأفكار مخالفة لما هو سائد ومتفق عليه في المجتمع, ويعتبره فكراً شاذاً وغريباً؟ ويلي ذلك سؤال آخر يتصل بالعوامل التي تدفع بهذا الفرد أو المجموعة من الأفراد إلى التحول من تبني تلك القيم والأفكار المتطرفة إلى انتهاج سبيل العنف لتحقيقها؟
وتكمن الإجابة عن هذين السؤالين في فهم عمليتي "التسييس" و"اللجوء إلى الصدام والعنف" اللذين يتعرض لهما هذا الفرد أو المجموعة من الأفراد.
تشير عملية التسييس إلى ازدياد الاهتمام بالشأن العام وبقضايا وموضوعات تخرج عن دائرة المصالح الذاتية المباشرة للفرد. وتحدث تلك العملية عندما يدرك الفرد أنه ينخرط في تفاعلات سياسية واجتماعية وتتأثر حياته بعلاقات قوى غير متكافئة ومن ثم يشعر بالظلم.
وكثيراً ما يفسر الفرد هذا الظلم – الحقيقي أو المتصور- بأنه بسبب معتقداته الدينية أو السياسية أو هويته الاثنية والطائفية. فيصبح هدفه هو تغيير تلك العلاقات من خلال التعاون مع الأفراد الذين يشاركونه نفس المشاعر والأفكار للتعامل مع ما يعتبرونه عقبة أمامهم، والتي قد تكون سياسات الحكومة أو أحد الأحزاب أو إحدى الجماعات الاثنية أو التكوينات الاجتماعية الأُخرى.
عملية تسييس الأفراد إذن هي نتيجة انخراطهم في تفاعلات اجتماعية يعتقدون أنها غير عادلة بالنسبة لهم أو أنها لا تحقق كل ما يهدفون إليه، ومن ثم يسعون إلى تغييرها من خلال الأساليب التي كفلها الدستور والقانون للتعبير عن الرأي والاعتراض والاحتجاج، أي السعي للتغيير بواسطة الطرق السلمية.
أما عملية "اللجوء الى العنف"، أو"الردكلة"، فتشير إلى تغيير في المعتقدات والمشاعر وأنماط سلوك ذلك الفرد أو تلك المجموعة من الأفراد ينقلهم من العمل لتحقيق أهدافهم بواسطة الأساليب السلمية إلى انتهاج سبيل الصدام والعنف والإرهاب.
ويتضمن هذا التحول تغيير أهدافهم من الاعتراض على بعض السياسات والتشريعات الحكومية إلى المطالبة بإحداث تغييرات جذرية في أسس المجتمع وقيمه ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويرافق ذلك التخلي عن الوسائل السلمية والدستورية والقانونية إلى استخدام العنف والإرهاب. ويكون هذا التحول عادة بفعل تأثير أفكار ضالة ومنحرفة أو نتيجة طموحات شخصية وصراعات سياسية، أو تاثيرات الانخراط فى تنظيمات معينة ومجمل ذلك هو "شرعنة" أو إسباغ الشرعية على سلوك العنف والإرهاب.
إن فهم العوامل التي تؤدي إلى التحول من التسييس إلى اللجوء للعنف هى أمر حيوي ليس فقط لفهم أحداث العنف والإرهاب التي تحدث من حولنا وإنما أيضاً لوضع السياسات والبرامج لمكافحتها والتقليل من آثارها.
ويمكن في هذا الشأن الإشارة إلى أن الانتقال من "التسييس" إلى "اللجوء للعنف" لا يحدث فجأة وبدون مقدمات، بل إنها عادة ما تكون ذات طابع تدرجي يتحول فيها الفرد من التعاطف السلبي أو الصامت مع الأفكار المتطرفة إلى التعاطف الإيجابي الذي يأخذ أشكالاً سلمية كتوقيع عرائض الاعتراض والمشاركة في المسيرات والدعم المالي وغيرها من الوسائل التى يسمح بها القانون وصولاً إلى الانخراط في أعمال العنف والإرهاب.
لذلك من المُهم لواضعي سياسات مكافحة التطرف والعنف والإرهاب فهم هذه الديناميات، وإدراك أن العوامل المؤثرة فيها ليست نمطاً جامداً بل إنها تتغير من جماعة لأُخرى وبلد لآخر ومن فترة لأخرى وربما من فرد لآخر.
هذة العوامل المؤثرة يمكن عرض أبرزها فى النقاط الأربع التالية..
أولاً: عوامل دافعية Motivational منها سعي الأفراد إلى تحقيق المكانة الشخصية أو إظهار التميز أو أحياناً الثأر أو الاضطرابات النفسية والعصبية والشعور بالتهميش الاجتماعي والنفسي.
ثانياً: عوامل أيديولوجية وفكرية تبرر استخدام العنف كسبيل لتحقيق الأهداف، ويأخد ذلك شكل توظيف بعض الأفكار الدينية والقومية لإقناع الأفراد باستخدام العنف.
ثالثاً: عوامل تنظيمية منها الانخراط فى تنظيمات سياسية عادة ما تكون ذات طابع سري، ووجود قيادة يتسم سلوكها بالمواجهة والصدامية وعدم الرغبة في الوصول إلى حلول وسط.
وفي هذه الحالة يقوم القائد بدوره في "غسيل الأدمغة"، وغرس مشاعر الطاعة والانقياد الأعمى بين الأتباع لأوامر التنظيم وقيادته وتطويع الأفكار الأيديولوجية والدينية لهذا الغرض، وطمأنة المنخرطين في العنف على مستقبل أسرهم بعد وفاتهم.
رابعاً: عوامل خارجية منها دور الأطراف الإقليمية والدولية التي تقوم بمساندة تلك التنظيمات من خلال الدعم المالي والسياسي والتزويد بالسلاح والتدريب والتغطية الإعلامية.
ويزداد دور العوامل الخارجية في حالة تنظيمات التطرف والعنف العابرة للحدود، والتي ينتشر لها فروع تمارس أنشطتها في أكثر من دولة.
ينهض هذا التحليل على التميز بين عملية "التسييس" وجوهرها قيام الأفراد والجماعات بالدفاع عن حقوقها من خلال الطرق السلمية والأساليب القانونية وعملية "اللجوء إلى العنف و الإرهاب" وجوهرها توظيف قيادة متطرفة للمعتقدات والأفكار وبناء تنظيمات ومليشيات مسلحة، وتوجيه أتباعها لأعمال العنف والإرهاب بهدف ترويع الناس وإضعاف مؤسسات الدولة والمجتمع.
وتهدف هذه الأعمال إلى إشاعة مناخ من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي نشهد نماذج له في عدد من البلاد العربية.
وفي إطار هذا المناخ، برزت ظاهرة "الإرهابيين الأجانب" أو "المقاتلين الأجانب" الذين يغادرون بلدانهم إلى مناطق العنف للمشاركة فيه، إما لدوافع نفسية وفكرية أو للحصول على مقابل مادي.
وهناك الكثير من القضايا المثارة الآن بعد استسلام الكثير من هؤلاء الإرهابيين والمرتبطة بمصيرهم وفرص إعادتهم إلى بلدانهم التي قدموا منها أو محاكمتهم مثل ما هو حادث بالنسبة للإهابيين الفرنسيين في العراق.
ختاماً فإن أي سياسة أو استراتيجية ناجحة لمكافحة أفكار التطرف وممارسة العنف والإرهاب ينبغي أن تنبني على فهم دقيق للأسباب التي تدفع الأفراد والجماعات إلى انتهاج هذا الطريق والعوامل المؤثرة عليه، وأن هذا الفهم هو ضمانة أن تحقق تلك السياسات والاستراتجيات أهدافها وغاياتها.