الضحية غير المعلنة.. كيف تؤثر الحروب اقتصاديا وسياسيا على العمل المناخي؟

استمرت الحرب العالمية الثانية بين عامي 1939 إلى 1945، وهي تُعد أحد أشرس الحروب التي شهدها التاريخ البشري على سطح الكوكب، وليس من الغريب أنها تسببت في خسائر بشرية تُقدر بما يتراوح بين 50 و70 مليون إنسان، فضلًا عن الإصابات التي طالت الملايين.
وجاء هذا بجانب الخسائر الاقتصادية، والأضرار البيئية الأخرى التي ما زال العالم يدفع ثمنها حتى اليوم؛ إذ استُخدمت أسلحة نووية في الحرب، ما أدى إلى تلوث إشعاعي لمساحات واسعة على الأرض.
كما تسببت الحرب في تدمير مساحات واسعة من الغابات المسؤولة عن امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون؛ فعلى سبيل المثال، فقدت مدينة طوكيو -عاصمة اليابان- ما يُقدر بنحو 63 ألف شجرة بحلول نهاية الحرب، وبعد الحرب مباشرة فقدت نحو 35 ألف شجرة؛ بسبب موت الأشجار أو قطعها للحصول على حطب؛ علمًا بأنّ فقدان الأشجار أحد العوامل الرئيسية لتفاقم الاحتباس الحراري.
ومن ذلك تتجلى مساهمة الحروب في تفاقم الاحتباس الحراري، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنها تُعرقل التقدم في العمل المناخي؛ خاصة خلال الأعوام القليلة السابقة، نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وكذلك حرب غزة، وما تبعهما من نزوح جماعي للسكان وتلوث البيئة وخلافات واضحة في المفاوضات.
وعلى الرغم من أنّ الآثار البيئية والمناخية للحروب جلية، إلا أنها ما زالت ضحية غير معلنة.
ضحية غير معلنة!
هناك بلاد وبيئات أكثر تأثرًا بتأثيرات التغيرات المناخية مقارنة بغيرها، وهي البيئات الهشة، التي يُسرع انهيارها الحروب، وفي هذا الصدد، يقول الدكتور عمر الشوشان، رئيس اتحاد الجمعيات البيئية لـ«العين الإخبارية»: "الحروب تُسرّع من انهيار النظم البيئية الهشة بطرق مباشرة وغير مباشرة"، ويتابع موضحًا أنّ "تدمير الغطاء النباتي وتلوث المياه وانسكاب النفط والذخائر التي تحتوي على معادن ثقيلة، كلها تُحدث اضطرابًا بيئيًا طويل الأمد".
ويُضيف الشوشان شارحًا التغيرات الطارئة على البيئات المختلفة في ظل الحروب: "في البيئات الجافة مثل الصحارى العربية، يؤدي تدمير الغطاء النباتي إلى تسارع التصحر وتراجع التنوع الحيوي. أما في البيئات المدارية، فإن تدمير الغابات خلال النزاعات يُقلل من قدرتها على امتصاص الكربون، ما يُساهم في تفاقم أزمة المناخ العالمية".
وأضاف: "تعتبر الأمم المتحدة أنّ البيئة هي الضحية غير المعلنة في النزاعات المسلحة، وغالبًا ما يستغرق تعافي النظم البيئية بعد الحروب عقودًا طويلة"، بحسب الشوشان.
من جانبها، توضح حنان كساس، مسؤولة الحملات الإقليمية والسياسة، في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال افريقيا لـ«العين الإخبارية» أنّ "النزاعات والحروب تضعف المؤسسات الوطنية وتستنزف الموارد التي يمكن أن تُوجَّه نحو بناء استراتيجيات مناخية فعالة. كما أن غياب الاستقرار يمنع إجراء بحوث بيئية منتظمة أو تنفيذ مشاريع طويلة الأمد تتعلق بالطاقة المتجددة أو التكيف مع آثار المناخ. إن غياب الاستقرار من الممكن أن يُعرقل هذه الجهود أو يؤجلها".
أضف إلى ذلك أنّ الحروب تتسبب في نزوح السكان والهجرة إلى المناطق الآمنة، الأمر الذي يعود سلبًا على الدول موارد المنطقة التي يتم النزوح إليها، كما تتعرض تلك المناطق إلى تدهور بيئي كبير.
ويشرح هشام عيسى، المنسق المصري السابق لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي (UNFCCC)، قائلًا لـ"العين الإخبارية": "ارتفع عدد النازحين إلى مصر خلال السنوات الأخيرة، نتيجة الحروب الأهلية في دول محيطة مثل: ليبيا والسودان وسوريا والعراق، وتجلى التلوث البيئي في زيادة كميات القمامة والمخلفات الصلبة. إضافة إلى هذا؛ فزيادة الضغط على السكن والمناطق السكنية أدت إلى تدهور المياه والبنية التحتية للمياه. كل هذا يؤثر على الاقتصاد العام للبلاد".
عدم استقرار
من جانب آخر، يؤدي عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي إلى تراجع الالتزامات المناخية خاصة في منطقتنا العربية التي تعاني من حروب ونزاعات في بعض دولها منذ عدة سنوات.
وفي هذا الصدد، أوضحت كساس: "نحن على أعتاب السنة العاشرة من اتفاق باريس للمناخ، الذي اعتمدته الدول في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2015 ودخل حيّز التنفيذ في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، بهدف الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى ما دون درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وبذل الجهود لحصرها عند 1.5 درجة. ومع اقتراب مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30)، يبدو واضحًا أن العالم لا يسير بالسرعة المطلوبة لتحقيق هذا الهدف ولا حتى بالتمويل الكافي".
وتتابع: "في منطقتنا، يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى تراجع الالتزامات المناخية أو تأخر تنفيذها، إذ تتغير الأولويات الحكومية بشكل متكرر وتتعرقل الخطط الوطنية طويلة الأمد، مما يضعف الاستمرارية المؤسسية. كما يعوق غياب التنسيق المؤسسي المشاركة الفاعلة في المفاوضات الدولية وإعداد التقارير الدورية المطلوبة".
وتُضيف: "يواجه صناع القرار في المنطقة تحديًا مزدوجًا: إدارة الأزمات الأمنية والاقتصادية الطارئة، مع محاولة إدراج الاعتبارات المناخية ضمن سياسات وطنية قصيرة ومتوسطة المدى. عدم القدرة على تبني استراتيجيات مناخية واضحة يعزز الفجوات بين الالتزامات الدولية لدول المنطقة مثل اتفاق باريس، وقدرتها على التنفيذ الفعلي، ما يحد من تأثير المنطقة في المفاوضات المناخية الإقليمية والدولية".
أما الدكتور الشوشان، فيرى أنّ "غياب الاستقرار السياسي يجعل من الصعب على الدول المتأثرة بالنزاعات الالتزام بتعهداتها المناخية أو تنفيذ خطط التكيف الوطنية"، ويوضح أنّ هناك بعض الدول مثل السودان وسوريا واليمن، تأثرت بانهيار برامجها البيئية بعد اندلاع الحروب الأهلية فيها، ما زاد من هشاشة أنظمتها البيئية والمائية.
كما تؤكد كساس على المسؤولية المشتركة بين دول الشمال العالمي ودول المنطقة: "يجب أن يكون الدعم الدولي، عبر التمويل الفني والمالي، أداة عدالة حقيقية تتيح لهذه الدول الوفاء بتعهداتها، لا عبئًا إضافيًا يزيد هشاشتها. كل فرصة تُمنح لهذه الدول للنهوض من النزاعات هي أيضًا فرصة لإعادة دمجها في مسار العدالة المناخية وحماية مستقبل شعوبها من آثار التغير المناخي".
ولمعالجة آثار التغير المناخي في سياق عدم الاستقرار؛ فهذا يتطلب "دمج الاستراتيجيات المناخية ضمن خطط التعافي الوطني، مع مراعاة الواقع الإنساني والاجتماعي، لضمان استجابة مستدامة وفاعلة تحقق العدالة المناخية وتحمي حقوق الفئات الأكثر تأثرًا"، بحسب كساس.
تقويض التعاون الدولي!
يجتمع في مؤتمر الأطراف المعني بالتغير المناخي (COPs) كل عام نحو 198 طرفًا، وفي حال وجود حروب ونزاعات بين طرفين أو أكثر منهم؛ فهذا يُعرقل المفاوضات والتعاون الدولي في قضايا المناخ، ويقول الدكتور شوشان أنّ النزاعات المسلحة تحوّل الموارد واهتمامات الدولة من التنمية المستدامة إلى الأمن والدفاع، كما أنّ الحروب تُعرقل المفاوضات المناخية وتُضعف الثقة بين الدول، بل وتحد من مشاركة المتضررين في المبادرات البيئية المشتركة.
وليس من الغريب أن تتأثر المفاوضات المناخية في ظل وجود حروب، خاصة بين دول كبرى، مثل حرب أوكرانيا وروسيا أو مأساة إنسانية مثل حرب غزة. ويوضح هشام عيسى: "ظهر التأثير الواضح للحروب بصورة مباشرة على المفاوضات والموضوعات التي بداخل المفاوضات، على سبيل المثال، بعد حرب أوكرانيا، ونتيجة انقطاع إمدادات الغاز الطبيعي من داخل أوروبا، اضطُرت العديد من دول أوروبا للعودة إلى استخدام الفحم، أو استخدام الوقود الأحفوري بصفة عامة، وهذا قاد إلى نقطة مهمة في المفاوضات؛ إذ أنّ هناك دول نامية لم تلتزم بتقديم مساهماتها المحددة وطنيًا؛ بحجة أن الدول المتقدمة المطالبة بخفض الانبعاثات وقيادة مسألة خفض الانبعاثات عادت لاستخدام الوقود الأحفوري؛ فصارت تلك الحجة ورقة تفاوضية في يد بعض الدول النامية؛ لتأجيل تقديم انبعاثاتها لخفض الانبعاثات".
استهلاك الموارد
وفي ظل الحروب، يُوجه جزء كبير من ميزانية الدول إلى الإنفاق العسكري بدلًا من الاستثمار في الطاقة المتجددة أو تمويل التكيف المناخي، ويقول شوشان: "بلغ الإنفاق العسكري العالمي في عام 2024 نحو 2.4 تريليون دولار، في حين لم تتجاوز مساهمات تمويل المناخ للدول النامية 100 مليار دولار. هذا الاختلال المالي يُظهر بوضوح أن العالم يخصص أضعاف ما ينفقه على حماية المناخ في تسليح الجيوش".
ويتابع موضحًا أنّ كل دولار يتم استثماره في الوقاية المناخية يمكنه أن يوفر ما بين 4 إلى 7 دولارات من الخسائر الناتجة عن الكوارث المناخية. وهذا يعني أنّ "تمويل الحرب يُفاقم من خسائر البيئة على المدى الطويل".
مخاطر مضاعفة
تتسبب التغيرات المناخية في مخاطر مضاعفة؛ خاصة في البلاد التي تعاني من نزاعات وحروب أهلية أو إقليمية، وتقول حنان كساس: "من الصعب الحديث عن أي فصل بين الأزمة المناخية والأزمات الإنسانية والاجتماعية في دول أنهكتها الحروب والنزاعات. تجاهل هذا الترابط هو شكل من أشكال الإنكار لواقع واضح ومؤلم. فالتغير المناخي ليس أزمة بيئية فحسب، بل هو عامل مضاعف للمخاطر في مناطق تعاني أصلًا من هشاشة اقتصادية كما تعاني شعوبها من أثار الحروب والإبادة على محيطهم وصحتهم الجسدية والنفسية".
وتتابع: "غالبًا ما تتجه الأولويات الحكومية نحو قضايا الأمن والإغاثة وإعادة الإعمار، في حين أن آثار التغير المناخي تضرب أساس البنى الحيوية للحياة اليومية: من المياه إلى الزراعة إلى الصحة العامة. ارتفاع درجات الحرارة، موجات الجفاف، التصحر، وتراجع الإنتاج الزراعي كلها عوامل تخلق دوامات جديدة من الفقر والنزوح، وتزيد الضغط على الموارد المحدودة".
وتستكمل حديثها قائلة: "رغم ذلك، نلاحظ تطورًا في الخطاب الإقليمي والوطني خلال السنوات الأخيرة، مع إدراك متزايد بأن الاستقرار البيئي شرط للاستقرار الاجتماعي والسياسي. بدأت منظمات المجتمع المدني والحركات الشبابية في المنطقة تربط بين العدالة المناخية وبناء السلام المستدام، معتبرة أن الاستثمار في حلول مناخية عادلة هو استثمار في الأمن البشري والاقتصادي. نحن بحاجة إلى تحول في النهج نحو مقاربة شاملة للحوكمة المناخية، تعترف بأن مواجهة تغيّر المناخ هي أساس لإعادة بناء الدول وتحقيق العدالة والسلام في منطقتنا".
جرائم بيئية وإنسانية
وتتسبب الحروب أيضًا في العديد من المشكلات البيئية التي تؤثر سلبًا على حياة البشر، ويقول الشوشان إنه "رغم عدم وجود نص قانوني دولي واضح يجرّم التلوث العسكري كـ"جريمة بيئية" قائمة بذاتها، فإن العديد من هذه الأفعال تندرج تحت انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني".
ويتابع موضحًا أنّ "البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف لعام 1977" يحظر استخدام أساليب أو وسائل قتال تتسبب أو تهدف إلى إحداث أضرار بيئية واسعة وطويلة الأمد، كما أنّ الأمم المتحدة أصدرت القرار رقم A/RES/47/37 لعام 1992، والذي يؤكد على منع استخدام الموارد البيئية كسلاح في النزاعات المسلحة، ذلك القرار الذي جاء كرد على سياسات "الأرض المحروقة" التي استُخدمت في حروب عدة، مثل حرق آبار النفط الكويتية عام 1991، وتدمير الغابات والأراضي الزراعية في فيتنام والعراق.
ويُضيف شوشان قائلًا: "تتجدد اليوم الدعوات لإدراج الإبادة البيئية ضمن نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية كجريمة خامسة إلى جانب جرائم الحرب والإبادة الجماعية، لحماية البيئة من الاستهداف الممنهج في النزاعات".
ويرى الدكتور عمر الشوشان أنّ "معالجة أثر النزاعات على البيئة تتطلب إطارًا قانونيًا دوليًا جديدًا يربط بين الأمن البيئي والسلام المناخي"، ويؤكد على أنّ "حماية البيئة ليست ترفًا في زمن الحرب، بل هي شرط أساسي لبناء السلام واستدامة المجتمعات بعد النزاعات". ويختتم قائلًا لـ"العين الإخبارية": "حين تتحول الموارد الطبيعية إلى سلاح، يتحول الإنسان إلى ضحية مزدوجة للحرب وللتدهور البيئي في آن واحد".
aXA6IDIxNi43My4yMTYuODYg جزيرة ام اند امز