إن الوثيقة هي أكثر من مجرد وثيقة مصالحة أو تأصيل للمشتركات، فهي بلورة لدور الدين في العصر الراهن
هل يستعيد الدين دوره كأحد الفاعلين في الحياة العامة في هذا القرن، بعد أن شهد القرن السابق حركات لا دينية متطرفة كالشيوعية والفاشية والنازية، وأخرى اجتماعية لا دينية، عكست الفراغ الروحي الكبير لدى أجيال شابة؟
إن الوثيقة هي أكثر من مجرد وثيقة مصالحة أو تأصيل للمشتركات، فهي بلورة لدور الدين في العصر الراهن، ودعم هذا الدور الإيجابي الإنساني في المجال العام، بل يمكن القول إنها خارطة طريق للمستقبل، تلتقي عليها كنائس ومؤسسات دينية أخرى
الدين الذي نعني بمفهومه ومهامه القيمية والأخلاقية والتعبدية والإنسانية، وليس مجرد تجديد في خطابه، بل إخراجه من لاهوت الانتقام أو الثأر من الآخر، وكذلك إخراجه من مجالات الصراع على السلطة؛ أي منع تسييس الدين.
إن تحويل الدين إلى أيديولوجية سياسية يخرجه من أفقه الروحي القيمي، وينزله إلى مستوى الأرضية الشرعية لبعض الدول، مترجماً بذلك فكرة (الحاكمية الإلهية)، ومن ثم يتحول الدين إلى أداة في فضاءات الصراع السياسي والاقتتال الأهلي.
واقعنا اليوم.. يفرض علينا قراءة جديدة، بعيدة عن أوهام الخيال الرومانسي، الذي يضعنا في حالة عداء دائم مع الآخر المختلف، عوض أن نكون شركاء معه في عمارة الأرض.
لقد ثبت أن التحديث في المجتمعات، وضغوطه ومتطلباته لا يذبل الدين، والأمثلة كثيرة على ذلك، منها أمريكا، حيث احتل الدين مكانة مهمة في المجال العام، وكان له دور مؤسس في أمريكا وفرنسا، ولعب اللاهوت دوراً مهماً في تأمين المصالح الاجتماعية الأولية للتنوع في المجتمع، كما ظلت الدولة راعية للمؤسسة الدينية في جوانبها المجتمعية وتقاليدها الثقافية في الأنموذج الغربي الأنجلو ساكسوني، وهناك دول غربية ينص دستورها على أن الديانة الرسمية للدولة هي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية مثل اليونان، كما ينص دستور أيرلندا، على تقديس (الرب وتعظيم الدين)، وتعتبر ألمانيا أن الدين يشكل فيها محور المجتمع المدني، أما فرنسا فإنه يمنع على الدولة رعاية الحقل الديني.
وهذا يعني أن المجتمعات الغربية هي مجتمعات ذات واقع تعددي ديني وفكري، وأن علمانية الدولة الحديثة في الغرب هي منظومة واسعة، وآليات متنوعة، تختلف في طبيعتها وحدودها باختلاف المجتمعات، وتلتقي على حماية حرية الاعتقاد والممارسة الدينية.
وأذكر أنه في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حينما أحالت بلدية روما إلى بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني الطلب الذي تلقته من سفارات الدول الإسلامية في إيطاليا لبناء مسجد ومركز إسلامي، رد البابا ناصحاً بلدية روما بالموافقة بلا تردد، وبالفعل قدمت بلدية روما الأرض (نحو عشرين ألف متر مربع) هدية لبناء المسجد والمركز الثقافي، والذي أُنجز بمساهمات من عدة دول عربية وإسلامية.
وأتذكر ذلك لأبين أن الأمل يتسع بفعل صفاء النوايا تجاه أتباع الديانات، مما يفتح أبواباً لمصالحات واسعة ولتعاون أعمق، لتنقية الأديان مما لحقها من تشويه وإساءة وسوء استغلال وتأويل.
وفي قراءتي «لوثيقة الأخوة الإنسانية»، التي أنجزتها الإمارات في فبراير الماضي، من خلالها جهود مخلصة ودؤوبة، ونجحت من خلالها في الجمع والاتفاق ما بين مؤسسة الأزهر الشريف، ممثلة بإمامها الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وحاضرة الفاتيكان في شخص قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، على إصدار هذه الوثيقة التاريخية، وجدت أنها تؤسس لمرحلة جديدة في التاريخ بين الأديان، وهي مرحلة مهمة وحرجة، تحتاج إلى سلام وتفهم وتفاهم بين أتباع الأديان والمعتقدات.
إن الوثيقة هي أكثر من مجرد وثيقة مصالحة أو تأصيل للمشتركات، وإنما بلورة لدور الدين في العصر الراهن، ودعم هذا الدور الإيجابي الإنساني في المجال العام، بل يمكن القول إنها خارطة طريق للمستقبل، تلتقي عليها كنائس ومؤسسات دينية أخرى، ومعتقدات معتبرة، ويتحمل رعاتها مسؤوليات كبرى في تحويلها إلى برامج ومشروعات تؤثر في حياة الناس، وتبطل كل مناخات الكراهية والعنف والعنصرية والتمييز والمعايير المزدوجة، وتؤسس لثقافة التسامح واحترام الاختلاف، خاصة بين الأجيال الشابة.
مبادرات وبرامج عدة، يمكن استنباتها من جوهر ومقاصد الوثيقة، التي ينبغي العمل على نشرها على نطاق العالم، لتكون مظلة للعيش المشترك على مستوى الإنسانية، وجاذبة لمختلف الكنائس المسيحية الأخرى، من بروتستانتية وأرثوذكسية، ورموز دينية وفلسفية وسياسية ومجتمعية من أنحاء العالم كافة.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة