قرأت عن الرسام الإسباني (غويا) المتوفى في 1828 عبارة تقول: «غفوة العقل، وتخليه عن التخيل والتفكر، يخلفان وحوشا».
قرأت عن الرسام الإسباني (غويا) المتوفى في 1828 عبارة تقول: «غفوة العقل، وتخليه عن التخيل والتفكر، يخلفان وحوشاً».
أثارت هذه العبارة العديد من الأسئلة في ذهني من بينها: «كيف يتسنى للأجيال الشابة اكتساب مهارات التأمل والتفكر؟ هل يكفي اكتسابهم مجموعة من المهارات التكنولوجية والمعلومات؟ أم أن الأمر أبعد من ذلك ويتصل باكتساب مهارات اكتشاف الغموض، وامتلاك الوعي بالبدائل والخيارات وبالمستقبل. وتجنب الخلط والارتباك في مواجهة اضطراب التفسيرات والأحداث؟
هل ستعيد ثورة الشبكات الرقمية هيكلة العلاقات الإنسانية باتجاه سعادة الإنسان وازدهاره؟ وهل ستساعدنا على اكتشاف (بجع سوداء) في وقت مبكر، قبل حدوث الأزمات ونشوب النزاعات أو الاضطرابات في الشوارع؟
وعدت إلى لوحة (غويا) الموسومة بغفلة العقل التي تنتج وحوشاً، وهي لوحة مرعبة، حيث يبدو فيها رجل نائم أو في غفوة يرتكز على طاولة، بينما تُحلق فوقه خفافيش تمتص الدماء، وأعداد من طائر البوم كرمز للتفاهة والغباء تحوم فوق رأسه، وخلفه حيوان من نوع الوَشَق، يجمع في شكله ما بين القط والنمر، يجلس على الأرض باسطاً ذراعيه، وفي حالة يقظة ومتربصة.
لوحة فنية تعبر عن المزاج المرعب لعصر (غويا)؛ حيث عمت الحروب والنزاعات، وشتى ضروب التعصب والكراهية والعنف والجنون الإنساني، وشيوع ظواهر الاعتقاد أنه لا يمكن أن يستمر الإنسان بالعيش إن لم يقضِ على الآخر المغاير.
هل يواجه العالم اليوم شيئاً من ظواهر وأسرار (لوحة غويا)؟ ألَمْ تدمَّر أوروبا ذاتياً، مرتين خلال النصف الأول من القرن العشرين؟ وهل ستؤدي هذه الاستخدامات المفرطة للتقانة إلى إشاعة ثقافة العزلة الواقعية للإنسان، وتقليل قدرته على التأمل والتحليل والتفكر؟
ألا تضع هذه الثورة الرقمية، التي ينخرط فيها مجتمعنا، ويستثمر خدماتها في الاقتصاد والتدبير الإداري ومنظوماتنا الأخرى، عقولنا وثقافتنا أمام تحديات كبرى؟
لقد غير هذا التطور الرقمي وإمكاناته المفتوحة على الابتكار باستمرار، نمط العيش، ولغات التعبير. إنه ليس مجرد حدث تقني وأدوات جديدة، ولكنه أيضاً حدث فلسفي، يعيد تكوين معنى الواقع، ويغير منظور الفرد لذاته، ولمجتمعه، ولعلاقاته السياسية والاجتماعية والثقافية، ولنمط التفكير لديه.
إنه فيض تكنولوجي هائل وجارف، يضع عقل الإنسان نفسه أمام تحدٍ كبير.. وأقله تحدي الصحو، بما فيه الصحو النقدي.. وتغير مفهوم الثقافة؛ حيث لم يعد المثقف التقليدي، وحده هو السلطة المرجعية للثقافة، وبناء السؤال. ودخل في هذه المرجعية شركاء جدد، وبمسميات متعددة، مثل المستشار والخبير والمفتي والإعلامي الفضائي، وانخرطوا في مجالات التحليل والتفكيك وإنتاج المعاني.
وليس من المؤكد أن هؤلاء الشركاء الجدد مؤهلون لإنتاج فكر أو خطاب ثقافي إنساني مستقبلي، أو لفتح آفاق جديدة للروح الإنسانية ولذائقة الجمال والمحبة والتعايش والسلم والعدل والكرامة الإنسانية.
ولنتذكر أن الحداثة الغربية بقدر ما أنتجت من تقدم علمي وإدارة سلمية لمجتمعاتها، وتدفق سلع وأفكار وأيديولوجيات، بقدر ما لها انكساراتها التي خلقت أجواء من العنف والغزو والحروب والتفكيك لمجتمعات غير غربية، وقلق وجودي لشعوب كثيرة على مستقبلها، واتبعت سياسات معايير مزدوجة وتمييز صارخ بين البشر، وقامت ولم تقعد لمقتل إنسان واحد، وصمتت صمتاً أبدياً لعذاب أو مقتل ملايين من البشر.
هل ستعيد ثورة الشبكات الرقمية هيكلة العلاقات الإنسانية باتجاه سعادة الإنسان وازدهاره؟ وهل ستساعدنا على اكتشاف (بجع سوداء) في وقت مبكر، قبل حدوث الأزمات ونشوب النزاعات أو الاضطرابات في الشوارع؟
وما موقع هذه الثورة الرقمية في الإرادة السياسية، وفي إعادة «هندسة» ثقافة المجتمع، على نحو يُحصِّن الثقافة الوطنية، ويبدع هوية قابلة للتجدد، ويسمح بامتلاك القدرة على التمييز والتحليل والنقد، والتأمل الذاتي؟
من الأساطير الإثيوبية القديمة مقولة تقول: «إن الفهد حيوان نصراني» يصوم، وفقاً لتقاليد أيام الصوم القبطية (الأربعاء والجمعة)، أي أن الفهد لن يأكل مواشيهم في هذين اليومين، لكنهم بقدر ما كانوا يؤمنون بهذه الأسطورة، فإنهم كانوا يحرصون على حماية مواشيهم حتى في هذين اليومين.
هذا الاعتقاد بالأسطورة لم يورثهم قلقاً.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة