عامان مضيا على تلك الليلة التي غيّرت وجه مدينة درنة الليبية إلى الأبد، مدينة البحر والشمس والذكريات تحولت في لحظة إلى مسرح لمأساة إنسانية غير مسبوقة.
اجتاح إعصار "دانيال" المدينة محملاً بسيول عاتية دمّرت المنازل، وخطفت الأرواح، وتركت جراحًا غائرة في قلوب أبنائها.
في أزقة المدينة، تختلط صور الفقدان برائحة البحر، وتظل شهادات الناجين شاهدًا حيًا على قسوة اللحظة، أب فقد أبناءه، وأم تبحث عن بقايا صور، وأطفال وجدوا أنفسهم فجأة بلا مأوى أو عائلة.
المأساة لم تفرق بين صغير وكبير، لتتحول درنة إلى مدينة مثقلة بالحزن، لكنها أيضًا مدينة للصبر والإرادة.
وسط الركام، ظهرت ملامح إنسانية مضيئة؛ فقد وحّد الإعصار الليبيين على اختلاف انقساماتهم، واجتمعوا شرقًا وغربًا وجنوبًا لإنقاذ الضحايا ومساعدة المنكوبين.
مشاهد التضامن رسمت بارقة أمل جديدة، لتؤكد أن الكارثة رغم قسوتها، أعادت إلى الليبيين معنى الأخوة، ورسخت فكرة أن الألم المشترك قد يكون بداية لطريق جديد نحو الحياة.
في شهادته المؤلمة، يقول عاشور النصري: "قبل نصف ساعة فقط كانوا يلعبون أمامي، ثم جرفتهم المياه أمام عيني. لم أستطع إنقاذ أحد منهم"، بينما يروي علي عبدالرزاق تفاصيل الهلع: "انهار السد الثاني، وارتفعت المياه إلى ارتفاع أربعة أدوار، كنا نصعد السلالم بحثًا عن النجاة لكن المياه كانت أسرع".
وثائقي "العين الإخبارية" يرصد أيضًا شهادات خبراء ومسؤولين، منهم المهندس عادل منصور، الذي أكد أن السدود المهملة لم تصمد أمام كمية مياه تفوق طاقتها بخمس مرات، فيما أوضح نافع عبدالحميد أن إعلان الطوارئ لم يمنع المفاجأة الكارثية التي باغتت الجميع.
لكن بين الألم برزت قصة أخرى: قصة وحدة إنسانية لم يعرفها الليبيون منذ سنوات طويلة. فالكارثة أذابت الخلافات السياسية، وجمعت الليبيين شرقًا وغربًا وجنوبًا في مشهد إنقاذ واحد، جعل من درنة رمزًا للمصالحة الوطنية والتكافل الإنساني.
واليوم، وبعد عامين، يستعرض الوثائقي جهود إعادة الإعمار بقيادة صندوق التنمية، حيث تحولت المدينة إلى ورشة عمل لإعادة بناء البيوت والسدود وشبكات الصرف، في رحلة لا تعيد العمران فقط، بل تبعث الأمل في قلوب الناجين.
درنة، التي كتبت قصتها بالدموع، تعود اليوم لتكتب فصلًا جديدًا من الصمود، ولتبقى شاهدًا على أن من قلب المأساة يمكن أن تولد بداية جديدة.
إعصار دانيال، الذي اجتاح ليبيا بين 4 و12 سبتمبر/ أيلول 2023، يُعدّ من أعنف الكوارث الطبيعية في تاريخ البلاد الحديث.
فقد تسببت الأمطار الغزيرة في انهيار سدين قرب مدينة درنة، ما أدى إلى فيضانات كارثية جرفت أحياء كاملة وأودت بحياة أكثر من 4 آلاف شخص، فيما تجاوز عدد المفقودين 10 آلاف وفق تقديرات متباينة.
تفاقمت آثار الكارثة نتيجة الحرب الأهلية التي أنهكت ليبيا لسنوات، تاركة بنيتها التحتية الحيوية في حالة تدهور شديد.
ورغم هول المأساة، سارعت دول عدة على طول البحر الأبيض المتوسط إلى التعهد بتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية للمناطق المنكوبة، في محاولة لتخفيف تبعات أسوأ إعصار يضرب المنطقة في العصر الحديث.
الإمارات والعطاء الإنساني لإغاثة متضرري إعصار درنة
ومنذ اليوم الأول، بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة، العطاء الإنساني والدعم المتواصل للشعب الليبي الشقيق، من أجل مساعدة المتضررين من إعصار دانيال الذي ضرب مدينة درنة، حيث سيّرت الإمارات جسرا جويا بعشرات الطائرات محملة بمئات الأطنان من المواد الغذائية الأساسية والمستلزمات الطبية.
ومثلت الاستجابة الإماراتية لإغاثة الأشقاء في ليبيا والوصول إلى المنكوبين والمتضررين في وقت قياسي، جزءا أساسيا من منطلقات العمل الإنساني في دولة الإمارات، حيث أسهمت جهود فريق البحث والإنقاذ الإماراتي المتواجد في ليبيا ضمن مهمته الإنسانية المتواصلة، في العثور على مئات المفقودين، بعد عمل دؤوب على سواحل المدينة وتحت الركام وفي المناطق الأكثر تضررا.
كما ساهم الفريق بمساندة الجهات والفرق الليبية المختصة في مساعدة المتضررين والنازحين وتقديم العون والإغاثة لهم، والكشف عن أماكن ضحايا هذه الكارثة وانتشال الجثث والأشلاء من المنازل وعلى ساحل البحر وتحت الركام.
وفي 21 سبتمبر/ أيلول 2023، وصل فريق تحديد هوية ضحايا الكوارث الإماراتي "DVI" إلى ليبيا والذي يُعد الأول على مستوى العالم الذي يصل إلى درنة للقيام بهذه المهام النوعية؛ حيث يضم الفريق مجموعة من الخبراء والمختصين واستشاريي الطب الشرعي وطب الأسنان والـ "DNA"، مجهزين بمعدات وأدوات متقدمة خاصة بالتعامل مع الوفيات الجماعية.
كما تم تدشين "خط فحص الأشلاء المركزي" في مدينة درنة وذلك بموجب تكليف من النائب العام الليبي؛ تحت إشراف وتصميم الفريق الإماراتي والذي يتكون من 252 وحدة تبريد لحفظ الأشلاء و4 خطوط لحفظ الجثث بالإضافة إلى المعدات الطبية والوقاية الشخصية بما يتناسب مع المحافظة على السلامة العامة ومراعاة جودة المخرجات.
ومع استلام القائمة المبدئية من مكتب النائب العام، بدأ فريق "DVI" التواصل مع المبلغين "ذوي الضحايا" ومقابلتهم وجمع المعلومات منهم وأخذ عينات الحمض النووي الوراثي "DNA"، في فرعين هما مركز "باب طبرق" ومركز "شيحا"؛ بالتنسيق مع الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين.
وشاركت في الحملة الإغاثية كل من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي، ومؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، ومؤسسة خليفة بن زايد آل نهيان للأعمال الإنسانية، ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للأعمال الخيرية والإنسانية.