دائماً ما أبدأ محاضراتي لطلاب الإعلام والصحفيين الشباب بسؤال قد يراه بعضهم بعيداً عن عالم الإعلام والصحافة، لكنه لا يعد مدخلاً رئيسياً لفهم فنيات السرد الصحفي والكتابة الإبداعية فحسب، بل المفتاح الرئيس لفهم ديناميات الحراك الفكري والتلاقح الحضاري بالعالم.
وهذا السؤال أيضاً هو علامة الاستفهام الكبرى التي انطلق منها فيلسوف التاريخ الأمريكي من أصول إسرائيلية يوفال نوح هراري، في سِفره الرائع عن تاريخ العاقل (الإنسان) لفهم كيفية سيادة هذا الكائن دون المخلوقات الأخرى على وجه الأرض.
والسؤال باختصار: ما الفارق الجوهري بين الإنسان والحيوان؟ لكن مهلاً... فقبل الولوج لحيثيات الإجابة وملابساتها يبدو أن هذا السؤال سيلاحقه آخر بات يفرض نفسه على كل البشرية، ويلقي بظلاله على مستقبلها، وهو: ما الفارق الجوهري بين الإنسان والروبوت الذي يتحكم الآن في كثير من شؤون حياتنا؟
الفارق بين الإنسان والروبوت
من المفارقات أن الإجابة عن كلا السؤالين تتلخص في كلمة واحدة ستكون محور حديثنا في مقالات عدة مقبلة إن شاء الله. فإذا تطرقنا أولاً للفارق بين الإنسان والحيوان فإن كل الإجابات كانت تدور في فلك المشاعر، والضحك، والنطق، والعقل، لكن دراسات علم النفس التطوري دحضت كل هذه الإجابات؛ فالحيوانات لديها مشاعر وتضحك وتتكلم وتعقل أيضاً، فإذا أخذنا جانب المشاعر فسنرى أن الدراسات أثبتت أن الأبقار تصاب باكتئاب شديد وصدمة عصيبة بعد أن يتم تجريدها من مولودها، وهو ما يؤثر على إنتاجها من الحليب؛ لذلك تقوم مزارع الأبقار في أوروبا بعمل جلسات علاج بالموسيقى.
وفي حال الضحك والعقل، فإن لدى الحيوانات وكثيرٍ من أنواع الشمبانزي مشاعرَ ومنطقاً وضَحِكاً، وفي حال النطق أثبتت بعض أنواع الببغاوات قدرتها الفائقة على النطق. ويكفي أن القرآن الكريم يشير إلى أن البشرية تدين للغراب بتعليمه الإنسان كيفية دفن الموتى، هذا فضلاً عن تعلم التأمين الاستخباراتي من هدهد سليمان، وما النحل والنمل إلا أمم أمثالنا، حياتها كلها حبلى بأسرارٍ ما زلنا ننبش في أغوارها، ونتعلم من نظامها حتى اليوم.
أما إذا انتقلنا إلى السؤال بحلّته الجديدة، وهو: ما الفارق بين الإنسان والروبوت؟ فسنجد أن أي روبوت يستطيع أن يقوم بما يقوم به الإنسان، حتى المشاعر هناك أنماط من الذكاء الاصطناعي قادرة على محاكاتها، وتقوم بالإضافة إلى ذلك بأدق وأصعب الجراحات، حتى إنه يمكن القول إنه في كثير من المهن والصناعات بات الإنسان يعمل لدى الروبوت وليس العكس.
إذن ما الفارق القطعي الدلالة الوحيد الذي يبعد الإنسان عن مرتبة الحيوانات، ويجعله مميزاً عن الروبوت؟
الإجابة قطعاً ستكون الخيال.. ذلك الذي جعل الإنسان يسود على جميع الحيوانات على سطح هذا الكوكب، وسيجعله قادراً على وقف تسلل الفوضى والحفاظ على هذه السيادة مستقبلاً من فائض الهيمنة للروبوتات. فالإنسان الكائن الوحيد القادر على الابتكار والاختراع، مدفوعاً بقوة الخيال، وهذا ما جعله يؤسس حضارة نامية على الكوكب الأزرق.
وسنتناول ارتباط الخيال بقوة الحضارة والتلاقح الثقافي بين الأمم والشعوب من مختلف الأعراق والأديان في مجموعة من المقالات؛ كي نؤكد على المعادلة الحضارية الأساسية: "كلما شاع التسامح في المجتمع ازدهر معدل الخيال والحضارة، وكلما شاع التطرف والانغلاق الفكري خفّ أوارهما، واندثرا ليسود ظلام الحروب والإرهاب والمعاناة".
ورغم كل الأصوات والتحذيرات التي تدق ناقوس الخطر محذرة من الاستسلام الطوعي البشري للآلات، فإنني لا أشعر بأي ريبة إلا من شيء واحد فقط، وهو أن يتمكن الإنسان من نقل القدرة على الخيال إلى الروبوت، في هذه اللحظة سنشهد لا محالة صراعاً للسيطرة على الأرض بين الإنسان والروبوت الذي سيحيد عن الهدف الذي ابتكره الإنسان من أجله، وهو دعم الحضارة البشرية، لصالح الرؤية الروبوتية التي لن نعلم إلى أي مستقر ستأخذنا.
أول قصة خيال علمي
لكن ما علاقة ابن سينا بسؤالنا عن الخيال؟ الإجابة ببساطة هي لب علاقة الخيال بالدين والحضارة والروبوت، لكن من زاوية أكثر اتساعاً.
فإذا سألنا أحدث روبوتٍ للدردشة، والمعتمد على بنية خاصة للذكاء الاصطناعي، "شات جي بي تي" وأخواته (وهي نسخ ما زالت تحتاج لتطوير ويتم المبالغة في قدراتها الحالية) عن صاحب أول قصة خيال علمي في التاريخ، فإن الإجابة تقتصر على عدة سيناريوهات تحاول أن تقطع جدليات التأريخ المعتادة في الإشارة للبدايات في مثل هذه الأسئلة. باختصار ستكون مجرد معلومات عما هو منشور أو متداول عن تصورات للإجابة نابعة من خلفيات الكاتب الأصلي لهذه المعلومات، فقد كانت إجابة "شات جي بي تي" تشير إلى الكاتب الفرنسي جول فيرن، الذي نشر أول قصة خيال علمي في عام 1865 بعنوان "رحلة إلى القمر"، ويصف فيها فيرن 3 رجال ذهبوا إلى القمر عن طريق صاروخ، ويصف تفاصيل الرحلة والتحديات التي واجهوها في طريقهم وعودتهم إلى الأرض.
لكن الغوص في محركات البحث سيضيف الروايات الأخرى المخالفة لبداية جول فيرن (الذي لا نريد أن نبخسه حقه حيث إنه أبرز رواد أدب الخيال العلمي عالمياً)، فهناك الكاتبة البريطانية ماري شيلي في روايتها الشهيرة "فرانكشتاين" ونشرتها عام 1818، ويعدّها بعض النقاد أول رواية خيال علمي في العالم.
وإذا قلّبنا صفحات التاريخ، رأينا بعض النقاد الأمريكيين يجادل بأن أقدم النماذج السردية التي يمكن اعتبارها أدب الخيال العلمي هي ملحمة "جلجامش" عام 2000 قبل الميلاد، التي تنقب عن قدرة الخيال البشري للبحث عن سر الخلود البشري.
العرب رواد الخيال العلمي
ويطرح بعض المؤرخين المفكر والأديب لوقيان السميساطي أو "لوقيانوس السوري" الذي ولد ونشأ في سوريا كما أحبّ أن يلقب نفسه في أحد أشهر كتبه "الآلهة السورية" الذي يعد واحداً من أهم المراجع عن تراث سوريا وثقافة شعبها، باعتباره أول من كتب قصة للخيال العلمي.
وكان لوقيان رحّالة ومغامراً، وكان ذا خيال أخّاذ كبير. كتب في القرن الثاني الميلادي عن رحلات أسطورية غنية بالغرابة والمخلوقات الأسطورية الخرافية وبحار مسحورة، حتى إن بعض النقاد يعتبرون أن لوقيان سجل الانفراد لسوريا في هذا النوع من الأدب.
لكن "أمير الأطباء" العلّامة والمفكر والفيلسوف أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا، الذي ولد في بخارى عام 980م، يراه المفكر الأمريكي مارك غراهام صاحب أول رواية متكاملة الأركان في أدب الخيال العلمي، تطرقت لرحلة إلى القمر والنجوم عبر بطل يواجه مجموعة من الحضارات الخيالية في رحلاته بين القمر والنجوم. ويشير غراهام إلى أن هذه الحكاية محفوظة بشكل كامل في تعليق للفيلسوف وعالم الفلك "نصير الدين محمد الطوسي".
الدين والفلسفة والخيال في سلامان وأبسال
وإذا كان الروبوت فشل في استنتاج أن ابن سيناء صاحب أول قصة خيال علمي في التاريخ، يبدو أن غراهام أخطأ في وضع هذه المغامرة تحت اسم رواية "سلامان وأبسال" الشهيرة، فهناك تباين في نسبها إلى ابن سينا؛ لأن لهذه القصة أشكالاً مختلفة جداً؛ فالنسخة المترجمة من اليونانية من قبل حَنِين بن إسحاق، منسوبة لابن سينا وكثيراً ما وَقَعَ تناولها وإصلاحها، ثم وُسِّعت على شكل ملحمة شعرية بقلم الشاعر الفارسي عبد الرحمن الجامي (1414 - 1492م) في نسخة فارسية منسوبة للأخير.
وتدور أحداث قصة "سلامان وأبسال" حول ملك من ملوك اليونان كان يكره النساء ولقاءهن؛ فنصحه حكيم باتخاذ ولد زاهد مثله، وحاول إغواءه بامرأة حسناء، لكنه أبى فكان الحل الوحيد الأخير السحر لعيّنة من نطفة الملك في إناء مسحور لينبت له الولد المرغوب "سلامان". وقدم الحكيم للملك "أبسال" المراهقة الحسناء لتربية الطفل الذي لما بلغ أشدّه وقع في غرامها وهربا من الملك الذي رفض علاقتهما حتى نال منهما الوهن بعد أن نفدت حيلهما أمام عذاب وملاحقة الملك الذي أصر على الفصل بينهما، فما كان منهما إلا أن ألقيا بنفسيهما في البحر. فأمر الملك الأرواح أن تحفظ ابنه سلامان، بينما غرقت أبسال وظل سلامان يندبها حتى أنقذه الحكيم بزهرة تجعل طيف أبسال يأتيه وتكلمه، وفي يوم تحولت هذه الزهرة بأمر الحكيم لصورة فائقة الجمال، فأنْسَتْه أبسال وظل معلقاً بهذه الصورة الجديدة، وظلت تأتيه إلى أن تعبت نفسه منها، وأدرك "سلامان" الشفاء من دورة المحبة وصفّى عقله للحكم، وورث الملك وكان حكيماً زاهداً، وتستمر القصة في العجائب الأخرى التي واجهها هذا الملك.
وبعيداً عن أسطورة "سلامان وأبسال"، فإن ابن سينا احترف الطب والمنطق والفلك في سن المراهقة، وكان محاضراً لا يشق له غبار، وكان عالما حضاريا وظف ابداعات خياله لصالح البشرية دون تفرقة سواء للدين أو الجنس أو العرق، ومازالت أشرعة المجد التي احتضنته منذ القرن الثاني عشر غير قادرة على رد جميله للبشرية.
ابن سينا بين الطب والموسيقى
والمغزى الذي نريد تأكيده هو ارتفاع معدل الخيال والحضارة في البيئة المتسامحة، ونستطيع القول إنه لا توجد حضارة دون تسامح وخيال، وهكذا كانت البيئة الخصبة التي نشأ فيها ابن سينا تعج بالحياة والتسامح الفكري والديني سمحت بالتلاقح الحضاري في الاستمرار واستفادة منه بهوية تتعمق ومناعة تترسخ في خدمة البشرية.
فابن سينا ذو الخيال وأحد رواد الحضارة العالمية، ألّف أشهر مرجِع في مجال الطب، في العالم، وهو "القانون في الطب" بعد أن علّق وأضاف وحسّن ما ورثه من أطباء اليونان، وفي مقدمتهم أبوقراط، وترجم "القانون في الطب" أول مرة جيرارد الكريموني العالم اليهودي، وهو واحد من أهم علماء مدرسة طليطلة للمترجمين التي أنعشت العلوم الأوروبية في العصور الوسطى في القرن الثاني عشر، وخرج بـ30 طبعة لاتينية بعد أن صادقت عليه الكنيسة ليظلّ سِفر ابن سينا المرجع الطبي الأول في العالم طوال الفترة من القرن الثاني عشر وحتى القرن السابع عشر؛ أي أن هذا المرجع الذي صحح كثيراً مما ورثه من الحكمة اليونانية ليقدم علماً رصيناً بقلم عالم مسلم وترجمة يهودية (أغلب ترجمات ابن سينا وابن رشد كانت على يد الحبر والطبيب اليهودي موسى بن ميمون الذي هرب من الاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش في الأندلس وجاء إلى مصر)، كان المرجع الطبي الأول والمعتمد في جميع أوروبا المسيحية طيلة 5 قرون!
ولم يترك ابن سينا مجالاً من مجالات المعرفة إلا طَرَقه، مستنداً إلى منهج ينزع إلى الاستقلال في الرأي، والتحرُّر من أي فكرة لا يؤدي إليها نظر عقلي، وألَّف في الفلسفة والفلك والمنطق وعلم النفس، حتى الموسيقى، فوضع قاعدة توافق الأصوات «الهارموني»، وسجَّل ذلك في كتابه «جوامع علم الموسيقى»، مما فتح الباب إلى اختراع النوتة الموسيقية.
الخلاصة
الإنسان حمى خريطة البشرية بفضل الخيال، وتستمر سيادته طالما استمر يوقد شعلة هذه الطاقة الخلاقة التي هي العنوان الأول لبناء أي حضارة، وتحتاج بدورها لعقول منفتحة تقبل وتنتقد وتحسّن وتطور وتتواصل وتتفاعل وتأخذ كل مفيد وتبتكر وتستثمر في العقول. أما بيئة الانغلاق والتطرف فهي بيئة عقيمة في خيالها.
وفي النهاية، يكفي برسالة أبي القنبلة الأمريكية روبرت أوبنهايمر التي نجح المخرج البريطاني الرائع كريستوفر نولان في إعادة صياغتها بشكل جذاب عبر فيلم "أوبنهايمر"، من أجل إفاقة البشرية من سباتها في مكاشفة جديدة من خطورة التكنولوجيا النووية، وخطورة توظيف الخيال البشري في غير محله الذي هو إدامة الحضارة وتطويرها ووقف تسلل الفوضى في فنائها.
فالخيال والحضارة يحتاجان لتسامح، أما إذا أنقضت البشرية ظهرها من هذه المعادلة، ستواجه حتما مصيراً يجعل من بقاءها على الأرض محل شك، وعلينا أن نضع التحذير من نقل الخيال إلى عالم الروبوتات نصب أعيننا، لأنه إذا في حال اسأءنا استخدام فائض الخيال بنقله للربوت فإن الأخير سيستقطب كل الإرادات ويتمكن من ابتكار ابن سينا جديد لن يخدم الحضارة البشرية بل سيكون تحت إمرة السيادة الروبوتية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة