يخلد هؤلاء الفنانون شهداء الانتفاضة برسم لوحات لهم، ستتحول بمرور الزمن إلى رموز وعلامات تتذكرها الأجيال
وقعت أحداث تاريخية كثيرة مثل انتفاضة باريس في شهر مايو عام 1968، وبناء جدار برلين في الفترة ما بين عام 1961 وعام 1989، والجدار الإسرائيلي الفاصل الذي يقيمه الإسرائيليون منذ عام 2002، وقد واجه فيها المواطنون ذلك بسلاح فن الجرافيتي والكتابة على الجدران، ولا يختلف الشعب العراقي عن هؤلاء، فقد انطلق فن الجرافيتي على الألواح الكونكريتية التي استخدمت سواء حول المنطقة الخضراء حيث تحتمي الطبقة السياسية أو في مناطق حساسة أخرى من بغداد.
ومع انفجار الاحتجاجات مع الأول من أكتوبر، بدأ الفنانون والنشطاء في تجميل وتزيين ساحة التحرير، التي تحولت إلى أيقونة ثورتهم مقابل مظاهر الأسوار الشاهقة التي تحيط بنزلاء الطبقة السياسية التي استولت على نحو 400 عقار من عقارات الدولة، واستغلتها في مصلحتها ووزعتها على جماعتها بصورة غير شرعية في المنطقة الخضراء.
يخلد هؤلاء الفنانون شهداء الانتفاضة برسم لوحات لهم، ستتحول بمرور الزمن إلى رموز وعلامات تتذكرها الأجيال، لأنها جزء من مرحلة حاسمة في تاريخ العراق، إنها في نهاية المطاف أيقونة الجدران المنتفضة في الوقت الراهن
في الأماكن التي يعيش فيها الشباب المنتفض بكل حرية اجتهد عدد كبير من فناني وشباب العراق، ومن أبرزهم عادل العنيزي وسعد محمد وستار جاسم وأحمد ماجد ومهند الساعدي ومحمد جبار وزهراء عادل وغيرهم، بتزيين جدران نفق ساحة التحرير، عبر "رسوم الجرافيتي" لتخليد أبرز أحداث الاحتجاجات بعد الـ25 من أكتوبر، من أجل إحياء الأمل بمستقبلٍ أفضل. وقام المتظاهرون بحملة واسعة من أجل تنظيف وصبغ أرصفة النفق، ووضع سنادين الورود على الجزر الوسطية فيه، حيث تحول إلى مكان الحياة الجديدة لهم، ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا بتزيين جدران نفق التحرير بفن الجرافيتي الذائع الصيت في بلدان العالم، وهو الفن الشعبي الأكثر تعبيراً والتصاقاً بالجماهير.
ومن الكتابات التي تزين الجدران كلمات وجمل عبّرت عن دواخل المنتفضين ضد الظلم والاستبداد والفساد، مثل "قم من جرحك يا عراق قد صبرت طويلا وما عاد صبرك يا عراق جميلاً"، و"تك تك إسعاف الشعب"، و"إنه العراق أيها التاريخ إياك أن تغفل عنه"، و"لقد أشرقت شمس الحرية"، و"نازل آخذ حقي" وغيرها من العبارات والشعارات، وامتدت تلك الكتابات إلى مركبات "التوكتوك" البطلة الرئيسية في هذا الحراك؛ حيث تم رسمها بأشكال متنوعة، منها تزيينها بأجنحة الثور المجنح الآشوري، كما رسم بعض الفنانين لوحات لشهداء الانتفاضة على جدران أماكن الاحتجاج، وهم يعبرون عن أفكارهم ورسوماتهم بكل حرية بعيداً عن أنظار السلطة ورقابتها، ومنها رسومات تدعم جهود المرأة العراقية ومساهمتها في هذه الاحتجاجات، وهؤلاء سهروا الليالي لرسمها، ويتمنون أن تبقى حتى بعد تبديل النظام الحالي لأنها أصبحت جزءاً من ذاكرتهم وذاكرة من الخوف والكبت.
شكلّت انتفاضة الشباب العراقي فرصة كبيرة لفناني الجرافيتي للتعبير عن أنفسهم بحرية على جدران العاصمة، بعدما كان هذا الفن مقيّداً بسبب التعصّب والاستبداد، لقد غيّرت الانتفاضة كل شيء، بعد أن كان ممنوعاً إقامة أي رسوم على الجدران، وهكذا أطلق الفنانون والهواة العنان لمخيلتهم الفنية، واستحالت الجدران الرمادية لنفق الحرية إلى لوحة كبيرة لتفجير مواهب رسامي الجرافيتي.
وستترك هذه الرسومات أثراً لا يمحى في نفوس الناس حتى لو أزيلت عن الجدران يوماً ما؛ لأنه تعبير عن تجمع مئات آلاف المتظاهرين في ساحة الحرية، وتحت نصب الحرية، تحولت هذه الجدران إلى شاهد على أحداث هذه الانتفاضة.
يسعى الفنانون من خلال رسوماتهم التأكيد على سلمية الحركة الاحتجاجية، داعين إلى اسقاط النظام القائم، وهو ما يُقابل بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وقنابل الخردل السامة، فلم يعد يكفي أن يقابل المتظاهرون هذا الطغيان بالمقاومة الجسدية لأنهم في حاجة إلى مقاومة روحية، وفن الجرافيتي خير ما يعبر عن ذلك لأنه يفجّر الطاقة الكامنة في نفوس الشباب، رغم القمع وآلة القتل التي لا تتوقف، ازدادت هذه الرسومات واشتدت أكثر في المواجهة، وازدهر هذا الفن في قلب ساحة التحرير؛ لأنه يُخلد مقاومة الفساد ومواجهة القتل، ويمجّد "ثورة تشرين"، ويوصل صوتها إلى الآخرين.
لم يعرف العراق هذا الفن في السابق؛ لأنه عاش عصور الاستبداد السياسي، وهو فن يعبّر عن فن الشارع بامتياز، ولا يعرف المراوغة أو التواطئ، ويتحلى برمزية عالية.
هكذا انفجر الجرافيتي مع الاحتجاجات، ويرافق المتظاهرين الشباب ضد البطالة والفساد والطغيان في معرض في الهواء الطلق لم يعتده العراقيون، ومن الممكن أن يمتد هذا الفن إلى المدن العراقية الأخرى، من خلال رفع شعارات سياسية وإنسانية مشحونة بالغضب الشعبي، كسر الرتابة السياسية وكذلك رتابة الجدران الحزينة والجافة، فقد أدخل فنانو الانتفاضة البهجة إلى قلوب المتفرجين.
ويمكن أن يتطور هذا الفن إلى أبعد من هذا الحد؛ لأنه لا يقتصر على الدعاية السياسية بل يشكل عاملاً من عوامل التحريض، ولذلك يخيف السلطة ما دام فنَّانو الجرافيتي يصرون على مطالبهم بالتحرّر في مواجهة العنف المفرط، الذي حول حياة العراقيين إلى تراجيديا، ويخلد هؤلاء الفنانون شهداء الانتفاضة برسم لوحات لهم، ستتحول بمرور الزمن إلى رموز وعلامات تتذكرها الأجيال، لأنها جزء من مرحلة حاسمة في تاريخ العراق، إنها في نهاية المطاف أيقونة الجدران المنتفضة في الوقت الراهن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة