أيا كانت المحاولات التي سوف تجري لإعادة الاستقرار في منطقتنا العربية فإن ذلك سوف يكون من الصعب حدوثه دون التعامل مع قضية الأقليات
عاش جيلنا على الفكرة القومية العربية التي ترى أنها مظلة واسعة تحتوي على كل الذين يعيشون في المنطقة العربية، ويعرفون لغتها ويستوعبون تاريخها ويدافعون عن مصالحها الاستراتيجية ضد قوى خارجية لا أرادت لنا خيرا حينما استعمرتنا، وكانت لديها من الشر ما يكفي لكي تضع في قلبنا وعلى الحدود الفاصلة بين المشرق العربي والمغرب العربي دولة إسرائيل، وفي مصر خاصة ذات الطبيعة المتجانسة بين الجماعات المقيمة على أرضها في عمومها فإن التميز العرقي والديني والمذهبي بدا غريبا، وعندما تلاحمنا بالوحدة مع سوريا حينا، والعراق وليبيا أحيانا أخرى، والسودان أحيانا واليمن أحيانا ثالثة، شاركنا مع الزملاء والرفاق وجهة النظر التي ترى في التجانس نوعا من طبيعة الأشياء حتى بات الحديث عن "الأقليات" نوعا من الهرطقة، ودعوة مبيتة للحديث عن الانفصال الذي سرعان ما يرتبط بمؤامرة دولية.
ما يهمنا في هذا المقال ليس مجرد عرض تاريخي للمسألة الكردية وإنما طرحها من زاوية أنه أيا كانت المحاولات التي سوف تجري لإعادة الاستقرار في منطقتنا العربية وإقامة إطار للأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، فإن ذلك سوف يكون من الصعب حدوثه دون التعامل مع قضية الأقلياتوعندما كانت المعلومات تلح بوجود معارضة ذات طبيعة طائفية من نوع أو آخر، وكنا نسأل الأصدقاء عن حقيقة ما يجري، سرعان ما كانت الإجابة أن الأحوال الحقيقية هي من سمن وعسل، وتعطي الأمثلة عن الزيجات بين السنة والشيعة، والعرب والأكراد؛ وأن ما يقال في الأمر هو محض محاولات لتفتيت الدولة العربية. ولكن وخلال العقود الثلاث الأخيرة جرت تطورات صادمة، فالدولة السودانية لم تعد قادرة على استيعاب الجنوب السوداني بشعوبه المتنوعة بدورها، وانتهى الأمر إلى أن الشمال تحت حكم الإخوان المسلمين كان يريد دولة صافية قوامها أهل الشمال من سنة الإسلام ودم العرب.
العراق جاءت منها الصدمة الأولى عندما قام صدام حسين باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد في "حلابجة"؛ وبعد حرب الخليج الأولى فإن إقليما للأكراد ظهر في الشمال الشرقي للبلاد في الشكل لديه حكما ذاتيا، وفي المضمون كان أقرب لدولة مستقلة. وبعد الغزو الأمريكي للعراق وسقوط صدام حسين قام الدستور الفيدرالي على أساس "المحاصصة" وكان للأكراد فيها منصب رئيس الدولة، ووضعا خاصا في تقاسم السلطة والثروة. وفي العراق الأخرى كان انقسام آخر بين السنة والشيعة، والفارق عما سبق كان تبادل المقاعد بين من كان يمثل الأغلبية ومن كان في حقيقته أقلية.
أسفر المشهد العربي مع الألفية الثالثة عن تنوع أكبر بكثير مما كان عليه التصور قبل نصف قرن؛ وفي كل المسارح التي جرى عليها النزاع بين القوى الكبرى من روسيا إلى الولايات المتحدة، أو بين القوى الإقليمية من إيران إلى تركيا إلى إسرائيل إلى دول عربية متنوعة، وفي مسارح الحروب الأهلية في العراق وسوريا ولبنان، ظهر الأكراد كقوة يعتد بها، وفي أحيان فإن أكراد العراق طرحوا للاستفتاء فكرة الاستقلال وفي التصويت حصل الموافقون على ٩٧% من الأصوات.
لم يستمر الأمر طويلا وبعد مواجهة مع الحكومة المركزية انتهى الأمر إلى العودة مرة أخرى إلى ما كانت الأوضاع عليه، وأصبح السيد برهم صالح رئيسا للدولة، وظل الإقليم الكردي إقليما للحكم الذاتي، ولكن ذلك لم يكن نهاية القصة، فمن ناحية كان الأكراد طرفا في المواجهات التي جرت ضد دولة "الخلافة" والجماعات الإرهابية، وحدث ذلك من قبل قوات البشمرجة الكردية وحدها أو من خلال جبهة عربية كردية فيما سمي بقوات سوريا الديمقراطية "قسد" وهذه، وهي التي عادت نظام بشار الأسد منذ نشوب الربيع السوري باتت على استعداد للتعاون مع النظام مرة أخرى في مواجهة الغزو التركي لسوريا. وسواء كان الأمر في العراق أم في سوريا فإن الأكراد عادوا مرة أخرى للاقتراب من الدولة العراقية والسورية دون الإخلال بطموحات قومية.
"المسألة الكردية" في تناولها تشهر واقعا لا يمكن تجاهله وهو أنه رغم وجود روابط تاريخية كثيرة فإن "الأكراد" وغيرهم من الملل والأعراق يمثلون أمرا واقعا لا بد من التعامل معه، والأكراد هم مجموعة من الشعوب التي عاشت وتعيش في شمال شرق العراق وشمال غرب إيران وشمال شرق سوريا وجنوب شرق تركيا، ويصل عددهم بالإضافة إلى أكراد أرمينيا إلى ما بين ٣٠ و٤٠ مليونا، ويشكلون رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط. وعاش الأكراد على الرعي والزراعة في البلاد التي عاشوا بها، وبينما أعاد مؤرخون أصولهم إلى "الكوتيين" الذين عاصروا "السومريين" وسكنوا مدينة بابل في العراق، فإن آخرين أعادوهم إلى الفرس، وآخرين أعادوا الأصل إلي العرب، وفي التاريخ العربي فإن شخصية "صلاح الدين الأيوبي" الكردي هي شخصية عربية أصيلة.
وأذكر في لقاء جرى في مؤتمر عن الشرق الأوسط بالعاصمة الأمريكية واشنطن قبل عقود مع الرئيس العراقي الحالي برهم صالح، والذي كان وقتها مديرا لمكتب واشنطن يمثل الأكراد؛ أن سألته حول الصراع العسكري المسلح الجاري بين الأكراد في العراق بين حزبي البرزاني وطالباني، فما كان منه إلا القول إن الأكراد في أمر الخلاف ربما لا يختلفون كثيرا عن العرب!
ولكن بغض النظر عن الأصول والثقافة السياسية المشتركة مع العرب فإنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن الأكراد يعتبرون أنفسهم "أمة" متميزة، لها لغتها الخاصة حتى ولو تعددت لهجاتها، ولها إدراكها الخاص بتاريخها وموقعها في المنطقة، وبناء على ذلك يطالب جماعات سياسية واجتماعية منهم بوجود وطن موحد للأمة الكردية في "كردستان" الكبرى، وتاريخيا فإن معاهدة "سيفر" عام ١٩٢٠ بعد نهاية الحرب العالمية الأولي وضعت تصورا لدولة كردية لم ترى وجودا في الواقع، ونفتها معاهدة "لوزان" عام ١٩٢٣ التي وضعت الحدود الحالية للدولة التركية دون قيام لدولة كردية، ولم يكن هذا الفشل القانوني مانعا من محاولات كردية عديدة لإقامة الدولة، فكانت هناك محاولة قصيرة العهد عام ١٩٢٢ في العراق، وأخرى في ١٩٢٣ واستمرت حتى ١٩٢٩ فيما عرف بكردستان الحمراء في أرمينيا وروسيا وأذربيجان، وحتى في تركيا جرت محاولة في جبال آرارات عام١٩٣٠، وفي إيران بعد الحرب العالمية الثانية قامت جمهورية مهاباد، ومرة أخرى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حاول الأكراد إقامة جمهورية "لاجين" التي انهارت بسرعة كبيرة.
ما يهمنا في هذا المقال ليس مجرد عرض تاريخي للمسألة الكردية وإنما طرحها من زاوية أنه أيا كانت المحاولات التي سوف تجري لإعادة الاستقرار في منطقتنا العربية، وإقامة إطار للأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، فإن ذلك سوف يكون من الصعب حدوثه دون التعامل مع قضية الأقليات في عمومها، والأكراد بشكل خاص؛ لأنها تمس العديد من دول المنطقة، بل إنها خلقت تحالفا ضمنيا بينهم على أساس أن إقامة دولة للأكراد ربما تؤدي إلى تفكك الدول ذاتها، بل إنها قد تفضي إلى العديد من الحروب الأهلية، ولعل تجربة تقسيم السودان بين الشمال والجنوب، وما كان من تداعياته حربا أهلية في الجنوب، ونزاعات مسلحة في الشمال بين الحكومة المركزية من جانب وأقاليم ودارفور وكردفانا والنيل الأزرق من جانب آخر، ما يفيد أن الانفصال وإقامة دول مستقلة ليست هي الحل للتعامل مع قضايا الأقليات، والحقيقة أن التاريخ عرف بين أمم العالم من انتشروا بين دول متعددة، وكثيرا ما قامت دول على التنوع القومي، وكان ذلك إضافة لقدرة الدولة على التقدم والازدهار بشرط الاعتراف بهذا التنوع ثقافيا واقتصاديا، وفي إطار سياسي مرن يقوم على أشكال متنوعة من اللامركزية الإدارية والاقتصادية والسياسية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة